للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ وَالْعُرْفُ فَصَارَ كَسُكُوتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ عَنْ التَّغْيِيرِ وَالْإِنْكَارِ، وَكَسُكُوتِ الْبِكْرِ وَالشَّفِيعِ وَالْمَوْلَى الْقَدِيمِ عِنْدَمَا يَرَى مَالَهُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَتَ عِنْدَمَا يَقْشَعُ الْأَجْنَبِيُّ بِبَيْعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ، وَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ لِلْمُوَكِّلِ لَا لِنَفْسِهِ

وَالتَّوْكِيلُ لَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ، وَكَذَا الْعَبْدُ وَكِيلٌ فِي حَقِّ مَا بَاعَهُ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْغَيْرِ، وَهُوَ الْمَوْلَى وَالتَّوْكِيلُ لَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ، وَكَذَا إذْنُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ حَتَّى يَكُونَ الْإِذْنُ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ وَسُكُوتُ الْمُرْتَهِنِ إجَازَةٌ فِي رِوَايَةٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَالْفَرْقُ عَلَى الْأُخْرَى أَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ إجَازَةً يَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِخُرُوجِ الْعَيْنِ مِنْ يَدِهِ، وَإِقَامَةُ الثَّمَنِ مَقَامَهُ فِي جَعْلِهِ رَهْنًا، وَهُوَ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ هَلْ يَحْصُلُ أَوْ يُتْوَى عَلَيْهِ فَلَا يَلْحَقُهُ هَذَا الضَّرَرُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ فِي تَزَوُّجِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَفِي إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى وَصَاحِبِ الْمَالِ فِيهِ ضَرَرًا مَحْضًا فَلَا يَلْزَمُهُ بِدُونِ الْتِزَامِهِ صَرِيحًا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ فِي الْحَالِ، وَفِي الْمَالِ جَانِبُ النَّفْعِ رَاجِحٌ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدُّيُونِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِعِوَضٍ، وَجَانِبُ تَحْصِيلِ الرِّبْحِ أَرْجَحُ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ فِي النِّكَاحِ وَكِيلٌ عَنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا إذَا أَذِنَ لَهُ بِالتَّزَوُّجِ لَا يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ لَا يَتَعَمَّمُ، وَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِنْ أَذِنَ لَهُ عَامًّا لَا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي) يَعْنِي لَوْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ إذْنًا عَامًّا بِأَنْ قَالَ لَهُ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَةِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، وَلَا بِنَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، وَأَمَّا إذَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لَا يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْدَامٌ، وَلَوْ صَارَ مَأْذُونًا لَهُ لَانْسَدَّ عَلَى الْمَوْلَى بَابُ الِاسْتِخْدَامِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَمَرَهُ بِبَيْعِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَا يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ آجِرْ نَفْسَك مِنْ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ اسْتِخْدَامًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهُ آجِرْ نَفْسَك مِنْ النَّاسِ أَوْ اُقْعُدْ صَبَّاغًا أَوْ خَيَّاطًا أَوْ قَصَّارًا أَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ حَيْثُ يَكُونُ إذْنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِعُقُودٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْإِذْنِ

وَكَذَا إذَا قَالَ لَهُ أَدِّ إلَيَّ كُلَّ شَهْرٍ كَذَا أَوْ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهِ إلَّا بِالتَّكَسُّبِ، وَذَلِكَ بِالتِّجَارَةِ لَا بِالتَّكَدِّي، وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ بِعُقُودٍ مُتَكَرِّرَةٍ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ كَقَوْلِهِ اشْتَرِ ثَوْبًا وَبِعْهُ أَوْ بِعْ ثَوْبِي هَذَا وَاشْتَرِ بِثَمَنِهِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ عَادَةً، وَقَوْلُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ أَدَّيْته إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَوْ أَعْطَاهُ رَاوِيَةً وَبَغْلًا، وَقَالَ اسْتَقِ عَلَيْهِ وَبِعْ الْمَاءَ مِنْ النَّاسِ كَانَ إذْنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّكَسُّبِ، وَذَلِكَ بِالْإِذْنِ، وَلَوْ غَصَبَ الْعَبْدُ ثَوْبًا فَأَمَرَهُ مَوْلَاهُ بِبَيْعِهِ كَانَ إذْنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِخْدَامِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَيَتَعَيَّنُ الْإِذْنُ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِنَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ كَانَ إذْنًا فِي الْجَمِيعِ، وَكَذَا إذَا قَيَّدَهُ بِوَقْتٍ أَوْ بِمُعَامَلَةِ شَخْصٍ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ عِنْدَنَا، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَوْكِيلٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَنَا إسْقَاطٌ

وَقَدْ بَيَّنَّاهُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ عَامًّا إلَخْ) قَالَ فِي تُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ الْإِذْنُ نَوْعَانِ خَاصٌّ، وَعَامٌّ أَمَّا الْإِذْنُ الْخَاصُّ كَأَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا أَوْ اشْتَرِ كِسْوَةً لِنَفْسِك أَوْ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَاهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَكُونُ مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ خَاصَّةً وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ لَا يَتَجَزَّأُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَذِنَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ وَلَوْ تَعَدَّى الْإِذْنُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْدَامِ، وَأَمَّا الْإِذْنُ الْعَامُّ كَأَنْ يَقُولَ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَاتِ أَوْ فِي التِّجَارَةِ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ بِلَا خِلَافٍ. أَمَّا إذَا أَذِنَ فِي نَوْعٍ بِأَنْ قَالَ اتَّجِرْ فِي الْبَزِّ أَوْ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا سُمِّيَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ اُقْعُدْ فِي الْخَزَّازَةِ أَوْ فِي الصِّيَاغَةِ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحِرَفِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَذِنْت لَك أَنْ تَتَّجِرَ شَهْرًا أَوْ سَنَةً يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ حَجْرًا عَامًّا، وَكَذَا إذَا قَالَ اتَّجِرْ فِي الْبَزِّ، وَلَا تَتَّجِرْ فِي الْخَزِّ لَا يَصِحُّ نَهْيُهُ وَيَعُمُّ الْإِذْنُ النَّوْعَيْنِ وَغَيْرَهُمَا.

وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ أَنَّ الْإِذْنَ تَمْلِيكُ التَّصَرُّفِ أَوْ إسْقَاطُ الْحَقِّ، وَفَكُّ الْحَجْرِ إلَى هُنَا لَفْظُ التُّحْفَةِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ: قَالَ بُرْهَانُ الدِّينِ الْأَجَلُّ الصَّدْرُ الْكَبِيرُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَهْلٍ الْمَعْرُوفُ بِمَازَهْ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ: الْمَأْذُونُ فِي نَوْعٍ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا إلَّا فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ وَصُورَتُهُ رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ تَصَرَّفْ فِي الْخَزِّ وَسَكَتَ أَوْ قَالَ تَصَرَّفْ فِي الْخَزِّ، وَلَا تَتَصَرَّفْ فِي الْبَزِّ عِنْدَنَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَزِّ وَالْبَزِّ جَمِيعًا، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ إلَّا فِي الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: لَا يَكُونُ مَأْذُونًا)، وَفِي الْقِيَاسِ يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي التِّجَارَةِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ خَصَّ، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَعْمَلُ فِي الْإِذْنِ عِنْدَنَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الضَّرُورَةُ وَالضِّيقُ عَلَى النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مَأْذُونًا لَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ وَوَقَعُوا فِي حَرَجٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُهُ مَأْذُونًا لَهُ بِالْإِذْنِ فِي شِرَاءِ جَمْدٍ أَوْ بَقْلٍ بِفَلْسٍ لَصَحَّ إقْرَارُهُ حِينَئِذٍ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ عَظِيمٍ حَيْثُ يُتْوَى بِذَلِكَ رَقَبَتُهُ، وَكَسْبُهُ فَلَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى اسْتِخْدَامِ الْمَمْلُوكِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ فَتَتَعَطَّلُ مَصَالِحُهُمْ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ لَمْ يَجْعَلْ الْإِذْنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ إذْنًا عَامًّا بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ اسْتِخْدَامًا وَتَوْكِيلًا. اهـ. وَالْحَاصِل أَنَّهُ مَتَى فُرِضَ إلَيْهِ عُقُودًا مُكَرَّرَةً كَانَ ذَلِكَ إذْنًا فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَحْصُلُ بِالْعُقُودِ الْمُكَرَّرَةِ، وَإِنْ فَوَّضَ إلَيْهِ عَقْدًا وَاحِدًا لَا يَتَكَرَّرُ كَانَ اسْتِخْدَامًا، وَلَمْ يَكُنْ إذْنًا فِي التِّجَارَةِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

<<  <  ج: ص:  >  >>