ثُمَّ إذَا صَارَ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا لَا يَجُوزُ بِمُحَابَاةٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ جَارٍ مَجْرَى التَّبَرُّعِ حَتَّى اُعْتُبِرَ مِنْ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، وَالتَّبَرُّعُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التِّجَارَةِ الِاسْتِرْبَاحُ، وَهَذَا ضِدُّهُ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تِجَارَةٌ لَا تَبَرُّعٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي ضِمْنِ عَقْدِ التِّجَارَةِ وَالْوَاقِعُ فِي ضِمْنِ الشَّيْءِ كَانَ لَهُ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلِهَذَا تَجْرِي فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ فِي الْكُلِّ كَوُجُوبِ الشُّفْعَةِ وَجَوَازِ الْمُرَابَحَةِ، وَقَدْ فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ التِّجَارَةِ فَيَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ كَفَكِّ الْحَجْرِ بِالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَبِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ مُقَيَّدٌ بِالْأَنْظَرِ
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْإِذْنِ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُمْ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ أَيْضًا فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ لِاسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُجَاهِزِينَ وَيَبِيعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي صَفْقَةٍ وَيَرْبَحُ فِي أُخْرَى، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْعُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ الْمَأْذُونِ لَهُمَا، وَلَوْ مَرِضَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ وَحَابَى فِيهِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحُرِّ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، وَلَا وَارِثَ لِلْعَبْدِ.
وَلَا يُقَالُ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ بِالْإِذْنِ فَصَارَ كَالْوَارِثِ إذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ يَنْفُذُ فِي الْكُلِّ بِخِلَافِ غُرَمَائِهِ عَلَى مَا يَجِيءُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَوْا بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ فَلَا تَنْفُذُ مُحَابَاتُهُ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا فِي يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي أَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ، وَإِلَّا فَرُدَّ الْمَبِيعَ كَمَا فِي الْحُرِّ هَذَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى مَرِيضًا لَا تَصِحُّ مُحَابَاةُ الْعَبْدِ إلَّا مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى كَتَصَرُّفَاتِ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِاسْتِدَامَةِ الْإِذْنِ بَعْدَ مَا مَرِضَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فَصَارَ تَصَرُّفُهُ كَتَصَرُّفِهِ وَالْفَاحِشُ مِنْ الْمُحَابَاةِ وَغَيْرُ الْفَاحِشِ فِيهِ سَوَاءٌ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْكُلُّ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيُوَكِّلُ بِهِمَا) أَيْ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَلَعَلَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْكُلِّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُعِينِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَيَرْهَنُ وَيَسْتَرْهِنُ)؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ وَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ بِالْهَلَاكِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَسْتَأْجِرُ وَيُضَارِبُ)؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَيَجُوزُ لَهُ الْمُضَارَبَةُ أَخْذًا وَدَفْعًا، وَكَذَا الْإِجَارَةُ بِأَنْ يُؤَجِّرَ غِلْمَانَهُ أَوْ يَسْتَأْجِرَ أُجَرَاءَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
( قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: فَأَمَّا إذَا بَاعَ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ ذَلِكَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ لَيْسَ بِسَبِيلِ النِّيَابَةِ بَلْ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى. اهـ. وَالْحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي قَالَ شِرَاءُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَبَيْعُهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَائِزٌ حَالًّا أَوْ آجِلًا أَوْ سَلَمًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ، وَلَا صَدَقَتُهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ مِثْلُ الْمُكَاتَبِ وَالصَّبِيِّ أَوْ الْمَعْتُوهِ يَأْذَنُ لَهُ أَبُوهُ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ حَذْفٍ.
قَالَ فِي الْحَقَائِقِ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ فِي بَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمُحَابَاةِ لَا يَجُوزُ أَصْلًا عِنْدَهُمَا وَإِنْ بَلَّغَ الْأَجْنَبِيُّ الثَّمَنَ إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ وَبِالْيَسِيرِ يَجُوزُ فَلَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ عِنْدَهُمَا مِنْ الْمُحِيطِ وَالْهِدَايَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْإِذْنِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَمْلِكُ كُلَّ مَا هُوَ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ جَرْيًا عَلَى قَضِيَّةِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالْغَرَضِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ نَصِّ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ خُلُوَّهُ مِنْ الْغَرَضِ فَإِنَّ التَّاجِرَ فِي الْعَادَاتِ كَمَا يُبَاشِرُ الْعَقْدَ عَلَى وَجْهٍ لَا غَبْنَ فِيهِ يُبَاشِرُهُ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ غَبْنٌ لِيَتَوَسَّلَ إلَى غَرَضٍ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا بِبَيْعِ مَا عِنْدَهُ، وَعَسَى لَا يَشْتَرِي مَا عِنْدَهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لِكَسَادِ السُّوقِ، وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ ثَمَنٌ مَا يُرِيدُ تَحْصِيلَهُ فَتَمَسُّ حَاجَتُهُ إلَى بَيْعِ مَا عِنْدَهُ بِوَضِيعَةٍ رَغْبَةً فِيمَا يُرِيدُ تَحْصِيلَهُ وَالِاسْتِرْبَاحُ عَلَيْهِ وَهَذَا مَعْهُودٌ بَيْنَ التُّجَّارِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ مَرِضَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ) أَيْ مَرَضَ الْمَوْتِ. اهـ. (قَوْلُهُ: هَذَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى صَحِيحًا) قَالَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ هَذَا إذَا حَابَى الْمَأْذُونَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَالْمَوْلَى صَحِيحٌ أَمَّا إذَا حَابَى فِي مَرَضِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَبَيَانُهُ مَا قَالَ فِي شَرْحِ الْكَافِي قَبْلَ هَذَا الْبَابِ: وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ مَرِضَ الْمَوْلَى فَبَاعَ الْعَبْدُ بَعْضَ مَا كَانَ مِنْ تِجَارَتِهِ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَحَابَى فِي ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْعَبْدِ، وَمَا فِي يَدِهِ فَجَمِيعُ مَا فَعَلَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَمَا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِتَسْلِيطِ الْمَوْلَى، وَإِنَّهُ يُلَاقِي حَقَّ الْمَوْلَى فَيُجْعَلُ ذَلِكَ مُحَابَاةً مِنْهُ، وَهُوَ مَرِيضٌ فَيُجْعَلُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا فِيمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَبْدِ لَمْ يَتَغَيَّرْ إنَّمَا تَغَيَّرَ حَالُ الْمَوْلَى فَكَانَ وَصِيَّةً مِنْهُ بَعْدَ الدَّيْنِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ، وَبِمَا فِي يَدِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ مِنْ مُحَابَاةِ الْمَوْلَى شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ الدَّيْنِ وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي فَانْقُضْ الْبَيْعَ، وَإِنْ شِئْت فَأَدِّ الْمُحَابَاةَ كُلَّهَا، وَلَوْ كَانَ الَّذِي حَابَاهُ الْعَبْدُ بَعْضَ وَرَثَةِ الْمَوْلَى كَانَتْ الْمُحَابَاةُ بَاطِلَةً فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ مِنْ الْمَوْلَى كَذَا فِي شَرْحِ الْكَافِي. اهـ أَتْقَانِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute