بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَلَكَهُ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ اللُّقَطَةَ عَلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا ثُمَّ إذَا أَصَابَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إذَا كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِغْلَالِ
وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرَجُّحِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ مَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالْعُرُوضِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ كَالنَّقْدَيْنِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ قَبْلَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ وَبَعْدَهُ يَحِلُّ إلَّا فِيمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ الرِّبْحُ الْمَذْكُورُ هُنَا فَإِنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَعَلَّقُ فِيمَا يَتَعَيَّنُ حَتَّى يَنْفَسِخَ الْعَقْدُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَمَكَّنَ الْخُبْثُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ فَقَدْ قَالَ الْكَرْخِيُّ: إنَّهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ أَشَارَ إلَيْهِ وَنَقَدَ مِنْهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ وَنَقَدَ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ أَطْلَقَ إطْلَاقًا وَنَقَدَ مِنْهُ أَوْ أَشَارَ إلَى غَيْرِهِ وَنَقَدَ مِنْهُ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَطِيبُ لَهُ إلَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا إذَا أَشَارَ إلَيْهِ وَنَقَدَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَيْهِ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ فَيَسْتَوِي وُجُودُهَا، وَعَدَمُهَا إلَّا إذَا تَأَكَّدَ بِالنَّقْدِ مِنْهَا
وَقَالَ مَشَايِخُنَا: - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَطِيبُ بِكُلِّ حَالٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَضْمَنَ وَبَعْدَ الضَّمَانِ لَا يَطِيبُ الرِّبْحُ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بِالنَّقْدِ مِنْهُ اسْتَفَادَ سَلَامَةَ الْمُشْتَرِي وَبِالْإِشَارَةِ اسْتَفَادَ جَوَازَ الْعَقْدِ لِتَعَلُّقِ الْعَقْدِ بِهِ فِي حَقِّ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ فَتَثْبُتُ فِيهِ شُبْهَةُ الْحُرْمَةِ لِمِلْكِهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ فِي زَمَانِنَا لِكَثْرَةِ الْحَرَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّا.
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا صَارَ بِالتَّقَلُّبِ مِنْ جِنْسِ مَا ضَمِنَ بِأَنْ ضَمِنَ دَرَاهِمَ مَثَلًا وَصَارَ فِي يَدِهِ مِنْ بَدَلِ الْمَضْمُونِ دَرَاهِمُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ بَدَلِهِ خِلَافُ جِنْسِ مَا ضَمِنَ بِأَنْ ضَمِنَ دَرَاهِمَ، وَفِي يَدِهِ مِنْ بَدَلِهِ طَعَامٌ أَوْ عُرُوضٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَمَا لَمْ يَصِرْ بِالتَّقَلُّبِ مِنْ جِنْسِ مَا ضَمِنَ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمِلْكٌ بِلَا حِلِّ انْتِفَاعٍ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ بِشَيٍّ وَطَبْخٍ وَطَحْنٍ وَزَرْعٍ وَاِتِّخَاذِ سَيْفٍ، وَإِنَاءِ غَيْرِ الْحَجَرَيْنِ وَبِنَاءٍ عَلَى سَاجَةٍ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ لَلَحِقَهُ ضَرَرٌ، وَكَانَ ظُلْمًا وَالظَّالِمُ لَا يُظْلَمُ بَلْ يُنْصَفُ ثُمَّ الضَّابِطُ فِيهِ أَنَّهُ مَتَى تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا، وَمُعْظَمُ مَنَافِعِهَا أَوْ اخْتَلَطَتْ بِمِلْكِ الْغَاصِبِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهَا أَصْلًا أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا، وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ شَيِّ اللَّحْمِ وَطَبْخِهِ وَطَبْخِ الْحِنْطَةِ أَوْ طَحْنِهَا وَزَرْعِهَا وَاِتِّخَاذِ الْحَدِيدِ سَيْفًا أَوْ إنَاءً وَاِتِّخَاذِ غَيْرِهِ مِثْلِ الصُّفْرِ إنَاءً وَالْبِنَاءِ عَلَى السَّاجَةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ إلَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُمَا بِاِتِّخَاذِهِ أَوَانِيَ أَوْ بِضَرْبِهِ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ غَيْرِ الْحَجَرَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْ الْعَيْنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَخْذَ الْعَيْنِ لَا يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ عِنْدَهُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الرِّبَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُضَمِّنُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنْ الْعَيْنِ، وَيَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لَكِنَّهُ يُبَاعُ فَيُوَفَّى بِهِ دَيْنُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ يَعْنِي مَا وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ مِنْ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ، وَإِنْ مَاتَ الْغَاصِبُ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجَعَلَ الْآبِقَ لِعَدَمِ رِضَاهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ إيفَاءِ الثَّمَنِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى مِنْ الْيَدِ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْيَدِ بِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَبْطُلَ بِهِ حَقُّ الْمِلْكِ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُهُ فَيَبْقَى مِلْكُهُ مَا بَقِيَتْ الْعَيْنُ وَيَتْبَعُهَا وَصْفُهَا إذْ هُوَ قَائِمٌ بِهَا فَيَتَرَجَّحُ هُوَ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ أَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ الدَّقِيقَ حِنْطَةٌ فُرِّقَتْ أَجْزَاؤُهَا، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ مِلْكِهِ كَالْقَطْعِ فِي الثَّوْبِ وَالذَّبْحِ وَالسَّلْخِ وَالتَّأْرِيبِ فِي الشَّاةِ؛ وَلِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ إذْ الْمَحْظُورُ لَا يُنَاطُ بِهِ نِعْمَةُ الْمِلْكِ عَلَى أَصْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِعْلُهُ فَصَارَ كَمَا إذَا وَقَعَتْ الْحِنْطَةُ فِي الطَّاحُونَةِ وَانْطَحَنَتْ بِفِعْلِ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ.
وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ الْعَيْنَ مِنْ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَقَاصِدَ قَدْ فَاتَ بَعْضُهَا، وَكَذَا الذَّاتُ قَدْ فَاتَ، وَمِنْ وَجْهٍ بِالِاسْتِحَالَةِ حَتَّى صَارَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ، وَقَدْ أَحْدَثَ فِيهَا الصَّنْعَةَ، وَهِيَ حَقٌّ لِلْغَاصِبِ، وَهِيَ قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَرَجَّحَتْ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ وَصْفًا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: وَبِنَاءٌ عَلَى سَاجَةٍ) فِي الْمُغْرِبِ السَّاجَةُ بِالْجِيمِ الْخَشَبَةُ الْعَظِيمَةُ أَيْ الْخَشَبَةُ الْمَنْحُوتَةُ الْمُهَيَّأَةُ لِلْأَسَاسِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ السَّاحَةِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَتَجِيءُ. اهـ كَاكِيٌّ. (قَوْلُهُ: بِفِعْلِ الْغَاصِبِ) قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ لَا بِفِعْلِ الْغَاصِبِ بِأَنْ صَارَ الْعِنَبُ زَبِيبًا وَالْخَمْرُ خَلًّا بِنَفْسِهِ وَالْحَلِيبُ جُبْنًا وَالرُّطَبُ تَمْرًا فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَضَمِنَهُ، وَلَوْ صَارَ الْعِنَبُ زَبِيبًا يَجْعَلُهُ مِلْكَهُ كَذَا فِي فَتَاوَى الْعَتَّابِيِّ. اهـ دِرَايَةٌ.
(قَوْلُهُ: وَالتَّأْرِيبُ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: تَأْرِيبُ الشَّاةِ جَعْلُهَا إرَبًا إرَبًا أَيْ عُضْوًا عُضْوًا. اهـ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute