للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هُوَ فَائِتٌ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ فِي الْعَيْنِ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ فَكَانَتْ كَسْبًا لَهُ، وَالْكَاسِبُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الْمَحَلِّ، وَذَاتُ حَقِّهِ قَائِمٌ فَكَانَ التَّرْجِيحُ بِهِ تَرْجِيحًا بِالذَّاتِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ، وَهَذَا تَرْجِيحٌ بِالذَّاتِ، وَهُوَ الْوُجُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ التَّرْجِيحُ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَالَ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ تَجُوزُ وَتَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ فَمَا ظَنُّك بِالْمِلْكِ بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ لَا يُفَوِّتُ اسْمَ الشَّاةِ يُقَالُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ وَشَاةٌ حَيَّةٌ وَالسَّلْخُ وَالتَّأْرِيبُ لَا يَفُوتُ بِهِ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ تَبْدِيلُ الْعَيْنِ فَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تَبَدَّلَتْ وَتَجَدَّدَ لَهَا اسْمٌ آخَرُ فَصَارَتْ كَعَيْنٍ أُخْرَى حَصَّلَهَا بِكَسْبِهِ فَيَمْلِكُهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الضَّمَانَ كَيْ لَا يَلْزَمَ مِنْهُ فَتْحُ بَابِ الْغُصُوبِ، وَفِي مَنْعِهِ حَسْمُ مَادَّتِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا بَعْدَ الطَّبْخِ أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى»، وَلَوْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ أَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَمَا قَالَ ذَلِكَ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِوُجُودِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ وَلِهَذَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ كَالتَّمْلِيكِ لِغَيْرِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّاهُ، وَنَفَاذُ تَصَرُّفِهِ فِيهِ لِوُجُودِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ شِرَاءً فَاسِدًا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ إذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ إلَيْهِ، وَأَخَذَهُ أَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْقِيمَةِ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى مِقْدَارٍ حَلَّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ فِعْلُ الْغَصْبِ عُدْوَانٌ مَحْضٌ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِنِعْمَةِ الْمِلْكِ قُلْنَا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَهُ قَصْدًا، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ سَبَبًا عِنْدَ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ بِالِاسْتِهْلَاكِ فِي ضِمْنِ حُكْمِ الضَّمَانِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَالضَّمَانُ حُكْمٌ وَاجِبٌ مَشْرُوعٌ حَسَنٌ بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ أَيْضًا حَسَنًا؛ لِأَنَّهُ يُرَاعَى صَلَاحِيَّةُ السَّبَبِ فِي الْأَصْلِ لَا فِي التَّبَعِ. تَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ الَّذِي هُوَ الزِّرَاعَةُ مَثَلًا لَيْسَ بِمَحْظُورٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَحْدَثَ الزَّرْعَ، وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ كَوْنُهُ غَصْبًا، وَهُوَ إزَالَةُ شَيْءٍ عَنْ يَدِ الْمَالِكِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إحْدَاثٌ صَلُحَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فَصَارَ قَوْلُنَا زَرْعُ حِنْطَةٍ مَغْصُوبَةٍ إشَارَةٌ إلَى إحْدَاثِ شَيْءٍ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ بِمَنْزِلَةِ الِاصْطِيَادِ بِقَوْسِ الْغَيْرِ وَالِاحْتِطَابِ بِقَدُومِ الْغَيْرِ. اهـ.

(قَوْلُهُ: فَلَا يَحْصُلُ بِهِ تَبْدِيلُ الْعَيْنِ) فِي الْخُلَاصَةِ: غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا وَسَلَخَهَا وَجَعَلَهَا إرَبًا إرَبًا مَلَكَهَا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا حَيَّةً أَوْ غَصَبَ حِمَارًا أَوْ بَغْلًا فَقَطَعَ يَدَهُمَا أَوْ رِجْلَهُمَا مَلَكَهُمَا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا. اهـ. قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ بَعْدَ الْغَصْبِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالُوا بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالذَّبْحِ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ فَنَمْنَعُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ لَا تَصِيرُ مُسْتَهْلَكَةً بِمُجَرَّدِ الذَّبْحِ لِبَقَاءِ الِاسْمِ وَلِهَذَا يُقَالُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ فَإِذَا أَرَّبَهَا عُضْوًا عُضْوًا بَعْضُهُمْ قَالُوا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا بِزَوَالِ التَّرْكِيبِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالذَّبْحِ لَمَّا لَمْ تَصِرْ الشَّاةُ مُسْتَهْلَكَةً صَارَ كَأَنَّهُ غَصَبَ شَاةً مَذْبُوحَةً فَقَطَّعَهَا إرَبًا إرَبًا فَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَا لَمْ تَفُتْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُقْصَدُ لِلْأَكْلِ، وَبَعْدَ الْقَطْعِ لَمْ يَبْطُلْ هَذَا الْمَعْنَى. اهـ. وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ حَكَى الزَّاهِدِيُّ فِيهِ خِلَافًا. اهـ. (قَوْلُهُ: فَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ) كَذَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي. اهـ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ) أَيْ لِلْغَاصِبِ كَمَا هُوَ الْقِيَاسُ وَبِهِ قَالَ زُفَرُ. اهـ. (قَوْلُهُ: أَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ) أَيْ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ الِانْتِفَاعُ بِهِ) أَيْ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ. اهـ.

وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ الَّذِي عَمِلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَاحْتَجَّ بِهِ وَرَوَاهُ مُحَمَّدٌ وَاحْتَجَّ بِهِ وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَارَ قَوْمًا فَذَبَحُوا لَهُ شَاةً فَجَعَلَ يَمْضُغُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَسِيغُهُ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا شَاةٌ لِفُلَانِ ذَبَحْنَاهَا حَتَّى يَأْتِيَ فَنُرْضِيَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى» فَلَوْلَا أَنَّ مِلْكَ الْغَاصِبِ زَالَ عَنْهَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا بَلْ أَمَرَ بِبَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا عَلَى الْغَائِبِ، وَعَلَى هَذَا بَنَى أَبُو حَنِيفَةَ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْغَصْبِ قَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي بِالْأَسْرَى الْمُحْتَبَسِينَ كَذَا فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَالْمَعْقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْغَاصِبَ غَصَبَ الْحِنْطَةَ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا بِالطَّحْنِ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْهَا لَا مَحَالَةَ فَصَارَ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَأَحْرَقَهُ فَصَارَ رَمَادًا فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَكَذَا هَذَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ أَنَّ اسْمَ الْحِنْطَةِ زَالَ عَنْهَا بَعْدَ الطَّحْنِ، وَكَذَلِكَ زَالَتْ صُورَتُهَا، وَمَعْنَاهَا فَدَلَّ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ أَمَّا إذَا زَالَ الِاسْمُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ تُسَمَّى حِنْطَةً وَالْآنَ تُسَمَّى دَقِيقًا.

وَأَمَّا زَوَالُ الصُّورَةِ فَلِأَنَّ صُورَتَهَا هِيَ الْحَبَّةُ السَّمْرَاءُ وَالْمَشْقُوقَةُ الْبَطْنِ، وَلَمْ تَبْقَ تِلْكَ الصُّورَةُ بَعْدَ الطَّحْنِ، وَأَمَّا مَعْنَاهَا فَلِأَنَّهَا كَانَتْ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ وَالْقَلْيِ وَلِطِبْخِ الْهَرِيسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْآنَ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ فَإِذَا ثَبَتَ التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ الدَّقِيقُ جِنْسًا آخَرَ غَيْرَ الْحِنْطَةِ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ سَبِيلٌ فِي الدَّقِيقِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْحِنْطَةَ لَا الدَّقِيقَ فَإِذَا كَانَ عَيْنُهَا مُسْتَهْلَكًا يَلْزَمُهُ مِثْلُهَا، وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ إذَا غَصَبَهَا فَزَرَعَهَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ غَيْرُ الْحِنْطَةِ بِدَلِيلِ تَغَايُرِ الِاسْمِ وَالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ فَصَارَ الْحَادِثُ غَيْرَ مَا كَانَ. اهـ أَتْقَانِيٌّ

<<  <  ج: ص:  >  >>