للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ شَرْطِ الْبَدَلِيَّةِ تَمْلِيكَ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَالذِّمِّيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَلِانْعِدَامِ الشَّرْطِ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِيمَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ كَسَرَ قَلْبَ غَيْرِهِ ثُمَّ تَلِفَ الْمَكْسُورُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَ الْكَاسِرَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ تَضْمِينِ قِيمَتِهِ تَمْلِيكُ الْمَكْسُورِ مِنْهُ، وَذَلِكَ قَدْ فَاتَ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ الْمُقَارِنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْغَصْبُ وَالِاسْتِهْلَاكُ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ كَمَا فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِنْ غَصَبَ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ فَخَلَّلَ أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَ فَلِلْمَالِكِ أَخْذُهُمَا وَرَدُّ مَا زَادَ الدِّبَاغُ) أَيْ يَأْخُذُ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَالْجِلْدَ الْمَدْبُوغَ يَأْخُذُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ إذَا خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ الشَّمْسِ إلَى الظِّلِّ، وَمِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ، وَبِالثَّانِي إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ كَالْعَفْصِ وَالْقَرَظِ بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّخْلِيلَ تَطْهِيرٌ لَهَا بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَتَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ لَمْ تَثْبُتْ بِفِعْلِهِ وَبِهَذَا الدِّبَاغِ اتَّصَلَ بِالْجِلْدِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَلِهَذَا يَأْخُذُ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَأْخُذُ الْجِلْدَ وَيُعْطَى مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الْجِلْدِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ، وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَحَقِّ الْحَبْسِ فِي الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ وَالرَّهْنِ بِالدَّيْنِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ بِالْجُعْلِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِنْ أَتْلَفَهُمَا ضَمِنَ الْخَلَّ فَقَطْ) أَيْ إنْ أَتْلَفَ الْغَاصِبُ الْخَلَّ وَالْجِلْدَ الْمَدْبُوغَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُمَا إلَى صَاحِبِهِمَا ضَمِنَ الْخَلَّ، وَلَا يَضْمَنُ الْجِلْدَ الْمَدْبُوغَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَضْمَنُ قِيمَةَ الْجِلْدِ أَيْضًا مَدْبُوغًا وَيُعْطَى مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ فِيهِ وَلِهَذَا يَأْخُذُهُ، وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُهُ لَهُ مَدْبُوغًا بِالِاسْتِهْلَاكِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخَلِّ ثُمَّ يُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ فَإِنَّ الْغَاصِبَ فِيهِ يَضْمَنُ قِيمَةَ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ عَلَيْهِ فَإِذَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ خَلَفًا عَنْهُ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالْمُسْتَعَارِ بِخِلَافِ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّفْوِيتُ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَالِاسْتِهْلَاكُ جِنَايَةٌ فَيَضْمَنُهُ بِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ.

وَكَذَا لَوْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ يَضْمَنُهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ دُونَ الْهَلَاكِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْهَلَاكَ يُفَارِقُ الِاسْتِهْلَاكَ، وَقَوْلُهُمَا يُعْطَى مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِأَنْ قُضِيَ لِأَحَدِهِمَا بِالدَّرَاهِمِ وَلِلْآخَرِ بِالدَّنَانِيرِ، وَأَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَيُحَطُّ عَنْ الْغَاصِبِ قَدْرُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْبَاقِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ ثُمَّ الرَّدُّ عَلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَالِيَّتَهُ وَتَقَوُّمَهُ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَاصِبُ، وَفِعْلُهُ مُتَقَوِّمٌ لِاسْتِعْمَالِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِيهِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ فَكَانَ حَقًّا لَهُ وَالْجِلْدُ تَبَعٌ لِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ ثُمَّ الْأَصْلُ، وَهُوَ الصَّنْعَةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِالْإِتْلَافِ فَكَذَا التَّبَعُ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ بِخِلَافِ وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَيْهِ حَالَ قِيَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْمِلْكَ وَالْجِلْدُ غَيْرُ تَابِعٍ لِلصَّنْعَةِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ لِثُبُوتِهِ قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ بِخِلَافِ مَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِيهِ لَمْ تَبْقَ حَقًّا لِلْغَاصِبِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ حَبْسُهُ، وَلَا الرُّجُوعُ بِبَدَلِهَا وَبِخِلَافِ الذَّكِيِّ وَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِيهِمَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الدَّبْغِ وَالصَّبْغِ فَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا لِلصَّبْغِ وَبِخِلَافِ الْمُسْتَعَارِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ لَهُ بِهِ حَقٌّ بِالْكُلِّيَّةِ فَضْلًا أَنْ تَكُونَ الْمَالِيَّةُ حَصَلَتْ بِفِعْلِهِ وَغَيْرُ الْمَضْمُونِ إنَّمَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَفَادًا مِنْ جِهَةِ الْجَانِي بِعِوَضٍ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ جِهَتِهِ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا كَانَ مَالِكًا لِلْمَبِيعِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ بِثَمَنٍ يَجِبُ عَلَيْهِ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ الضَّمَانُ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَبِيعِ، وَهُنَا مَالِيَّةُ الْمَغْصُوبِ وَتَقَوُّمُهُ حَصَلَ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ بِعِوَضٍ يَجِبُ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ حَتَّى لَوْ حَدَثَتْ الْمَالِيَّةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَسْتَحِقُّهَا عَلَيْهِ يَضْمَنُهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْهَلَاكِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْلَكْ بِفِعْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ جِنَايَةٌ كَذَا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فَإِذَا اسْتَهْلَكَهُمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَضْمَنُ الْخَلَّ، وَلَا يَضْمَنُ الْجِلْدَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَضْمَنُ الْجِلْدَ مَدْبُوغًا وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ أَمَّا مَسْأَلَةُ الْخَلِّ فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وُجُوهِ التَّخْلِيلِ، وَهُوَ مَا إذَا خَلَّلَهَا مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ؛ لِأَنَّهَا اسْتَحَالَتْ مَالًا عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ مَالٍ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ فَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ الْغَصْبُ ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَاذَا يَضْمَنُ قَالُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمِثْلَ؛ لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعٍ لَا يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَلَى وُجُوبِ الْمِثْلِ فَقَالَ فِي رَجُلٍ غَصَبَ مُسْلِمًا خَمْرًا فَجَعَلَهَا خَلًّا فَاسْتَهْلَكَهَا فَقَالَ عَلَيْهِ خَلٌّ مِثْلُهُ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَكَوْنُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَعَارَ وَاجِبُ الرَّدِّ فَإِذَا فَوَّتَ الْمُسْتَعِيرُ الرَّدَّ بِاسْتِهْلَاكِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ، وَإِنْ فَاتَ فَلَا فَكَذَا هُنَا الْجِلْدُ وَاجِبُ الرَّدِّ فَإِذَا فَوَّتَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِذَا هَلَكَ فَلَا. اهـ غَايَةٌ. (قَوْلُهُ: وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَالِيَّتَهُ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا فَلَا فَائِدَةَ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَيُعْطِيهِ خَمْسَةً. اهـ. (قَوْلُهُ: فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ) أَيْ لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: لِثُبُوتِهِ قَبْلَهَا) أَيْ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الصَّنْعَةِ. اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>