للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَمَا فِي مَسْأَلَةِ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ وَالدَّبْغِ بِشَيْءٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ، وَلَوْ كَانَ قَائِمًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ فِيمَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ مُتَقَوِّمٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ بِخِلَافِ صَبْغِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لِلثَّوْبِ قِيمَةً، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ فَيُضَمِّنَهُ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ صَارَ عَاجِزًا عَنْ الرَّدِّ بِتَرْكِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ، وَفِيهِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ عِنْدَهُمَا ثُمَّ قِيلَ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ، وَقِيلَ قِيمَةَ جِلْدٍ ذَكِيٍّ غَيْرِ مَدْبُوغٍ.

وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَهُوَ لِمَالِكِهِ مَجَّانًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا، وَقِيلَ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الدِّبَاغَةِ هُوَ الَّذِي حَصَّلَهُ فَلَا يَضْمَنُهُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ صِفَةَ الدِّبَاغَةِ تَابِعَةٌ لِلْجِلْدِ، وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْجِلْدِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمَالِكِ عِنْدَ دَفْعِ الْجِلْدِ إلَيْهِ فَإِذَا صَارَ الْجِلْدُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَكَذَا تَبِعَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ مُتَقَوِّمٍ، وَلَوْ جَعَلَ الْغَاصِبُ الْجِلْدَ فَرْوًا أَوْ جِرَابًا أَوْ زِقًّا لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى بِفِعْلِ الْغَاصِبِ وَبِهِ يَمْلِكُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلَا خِلَافٍ مَعْزِيًّا إلَى الْإِيضَاحِ وَالذَّخِيرَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مَعْنًى.

وَلَوْ خَلَّلَ الْخَمْرَ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ فِيهِ قِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْخَلْطِ بِمَالِهِ اسْتَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ اسْتِهْلَاكٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَصَارَ كَالْجِلْدِ إذَا اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الدِّبَاغِ بِاِتِّخَاذِهِ الْفَرْوَ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَعِنْدَهُمَا أَخَذَهُ الْمَالِك، وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الْمِلْحُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ دَبْغِ الْجِلْدِ وَصَبْغِ الثَّوْبِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِثْلَ وَزْنِ الْمِلْحِ مِنْ الْخَلِّ هَكَذَا ذَكَرُوهُ كَأَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا الْمِلْحَ مَائِعًا؛ لِأَنَّهُ يَذُوبُ فَيَكُونُ اخْتِلَاطُ الْمَائِعِ بِالْمَائِعِ فَيَشْتَرِكَانِ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ أَرَادَ الْمَالِكُ تَرْكَهُ عَلَيْهِ وَتَضْمِينَهُ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَبْغِ الْجِلْدِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لَهُمَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي دَبْغِ الْجِلْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَوْ خَلَّلَهَا بِصَبِّ الْخَلِّ فِيهَا قِيلَ تَكُونُ لِلْغَاصِبِ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ صَارَتْ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهَا أَوْ بِمُرُورِ الزَّمَانِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ اسْتِهْلَاكٌ عِنْدَهُ وَاسْتِهْلَاكُ الْخَمْرِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَعِنْدَهُمَا إنْ صَارَتْ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهَا فَكَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ، وَإِنْ صَارَتْ بِمُرُورِ الزَّمَانِ كَانَ الْخَلُّ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا كَيْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَهْلِكْ الْخَمْرَ فَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ خَلَطَ الْخَلَّ بِالْخَلِّ وَالْخَلْطُ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَهْلِكُ بِجِنْسِهِ، وَقِيلَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ فِيهَا أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا سَوَاءٌ صَارَتْ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهَا أَوْ بَعْدَ حِينٍ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ إنَّمَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ إذَا كَانَ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَهُنَا قَدْ تَعَذَّرَ وُجُوبُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ خَمْرَ الْمُسْلِمِ لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ. فَصَارَ كَمَا إذَا اخْتَلَطَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَتَبَقَّى أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إجْمَاعًا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى قَاضِيخَانْ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمَنْ كَسَرَ مِعْزَفًا أَوْ أَرَاقَ سَكَرًا أَوْ مُنَصَّفًا ضَمِنَ وَصَحَّ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا لَا يَضْمَنُهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلْمَعْصِيَةِ فَيَسْقُطُ تَقَوُّمُهَا كَالْخَمْرِ؛ وَلِأَنَّهُ فَعَلَهُ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بُعِثْت بِكَسْرِ الْمَزَامِيرِ، وَقَتْلِ الْخَنَازِيرِ» وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: لِأَنَّ لِلثَّوْبِ قِيمَةً) أَيْ حَتَّى لَوْ غَصَبَهُ جِلْدًا ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ كَانَ لِصَاحِبِ الْجِلْدِ أَنْ يُضَمِّنَهُ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ لِلثَّوْبِ قِيمَةً مَا نَصُّهُ أَيْ قَبْلَ الصَّبْغِ. اهـ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الثَّوْبِ) قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ، وَهَذَا إذَا أَخَذَ الْمَيْتَةَ مِنْ مَنْزِلِ صَاحِبِهَا فَدَبَغَ جِلْدَهَا فَأَمَّا إذَا أَلْقَى صَاحِبُ الْمَيْتَةِ الْمَيْتَةَ فِي الطَّرِيقِ فَأَخَذَ رَجُلٌ جِلْدَهَا فَدَبَغَهُ فَقَدْ قَالُوا إنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْجِلْدِ لِأَنَّ إلْقَاءَهَا إبَاحَةٌ لِأَخْذِهَا فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الرُّجُوعُ كَإِلْقَاءِ النَّوَى. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ) أَيْ بَعْدَ أَنْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ. اهـ. (قَوْلُهُ: يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا) أَيْ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ. اهـ أَتْقَانِيٌّ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ خَلَّلَ الْخَمْرَ بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ فِيهِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ، وَأَمَّا إذَا خَلَّلَهَا بِمِلْحٍ أَلْقَاهُ فِيهَا، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِهِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ وَيُعْطِيهِ الْغَاصِبُ مَا زَادَ الْمِلْحُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ دِبَاغِ الْجِلْدِ وَصَبْغِ الثَّوْبِ، وَإِنْ أَرَادَ تَرْكَهُ وَتَضْمِينَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى جِلْدِ الْمَيْتَةِ عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَ هَذَا، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ ذَلِكَ صَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ الْجَوَابَ فِي الْمِلْحِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا قِيمَةَ لَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ التَّخْلِيلِ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَالتَّشْمِيسِ، وَإِنْ أَلْقَى فِيهَا مِلْحًا كَثِيرًا يَأْخُذُهَا الْمَالِكُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَيُعْطِي الْغَاصِبُ مَا زَادَ الْمِلْحُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ دَبْغِ الْجِلْدِ وَصَبْغِ الثَّوْبِ كَذَا ذَكَرَ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِيخَانْ فِي شَرْحِهِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ) أَيْ اسْتَهْلَكَ الْخَمْرَ الَّذِي جَعَلَهُ خَلًّا بِإِلْقَاءِ الْمِلْحِ فِيهِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: وَقِيلَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ إلَخْ) قَائِلُهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ صَرَّحَ بِهِ الْأَتْقَانِيُّ. اهـ.

(قَوْلُهُ: وَقَالَا لَا يَضْمَنُهَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: وَجْهُ قَوْلِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ. اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>