للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يُلْحَقُ بِتَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِإِعَادَتِهَا بِقَوْلِهِ «مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَلَوْلَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَمَا وَجَبَ إعَادَتُهَا؛ وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ يُضَافُ إلَيْهَا، وَقْتُهَا يُقَالُ يَوْمُ الْأَضْحَى، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَيَحْصُلُ الِاخْتِصَاصُ بِالْوُجُودِ وَالْوُجُوبُ هُوَ الْمُفْضِي إلَى الْوُجُودِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى جِنْسِ الْمُكَلَّفِينَ لِجَوَازِ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَرْكِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا يَجْتَمِعُوا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَلَا تَصِحُّ الْإِضَافَةُ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ الْأَدَاءِ فِيهِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ يَجُوزُ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ وَالْمُسَمَّى بِشَهْرِ الصَّوْمِ رَمَضَانُ وَحْدَهُ، وَكَذَا الْجَمَاعَةُ تَجُوزُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَالْمُسَمَّى بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ يَوْمٌ وَاحِدٌ؛ وَلِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِيهِ بِلَا شَكٍّ، وَلَا تَكُونُ مَوْجُودَةً فِيهِ بِيَقِينٍ إلَّا إذَا كَانَتْ وَاجِبَةً، وَإِنَّمَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهَا يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ تَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَتَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ كَالْجُمُعَةِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهُمَا لَا يَفُوتَانِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلَا يُحْرَجُ.

وَالْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ فِيمَا رُوِيَ مَا هُوَ ضِدُّ السَّهْوِ لَا التَّخْيِيرُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَيَّرٍ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَقَعُ فِي الْمُبَاحِ، وَالْعَتِيرَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَهِيَ شَاةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالْأُضْحِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَالِيَّةٌ فَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالْمِلْكِ، وَالْمَالِكُ هُوَ الْحُرُّ وَالْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالْإِقَامَةُ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْيَسَارُ لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ دُونَ الْفَقِيرِ، وَمِقْدَارُهُ مَا يَجِبُ فِيهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْوَقْتُ، وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا فَأَيْسَرَ فِيهَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ، وَقْتَهَا، وَهُوَ غَنِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِهِ، وَقِيلَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْفَقِيرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَجَعَلَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَظِيرَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَوْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ لَا عَنْ طِفْلِهِ أَيْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ عَنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ،

وَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ أَنْ لَا تَجِبَ عَلَى أَحَدٍ بِسَبَبِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ، وَالسَّبَبُ فِيهَا رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ، وَيَلِي عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ دُونَ الْأُضْحِيَّةِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ عَبْدِهِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ تَجِبُ عَلَيْهِ عَنْهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ تَجِبُ عَلَيْهِ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَفْسِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْيَسَارِ فِيهَا وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ، وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ يُضَحِّي عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: يُضَحِّي عَنْهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْخِلَافُ فِي الْأُضْحِيَّةِ كَالْخِلَافِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقِيلَ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَتَأَدَّى بِالْإِرَاقَةِ، وَالصَّدَقَةُ بَعْدَهُ تَطَوُّعٌ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ وَلِأَنَّ الْإِرَاقَةَ إتْلَافٌ وَالْأَبُ لَا يَمْلِكُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ كَالْإِعْتَاقِ، وَكَذَا التَّصَدُّقُ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ الصَّغِيرُ أَنْ يَأْكُلَ اللَّحْمَ كُلَّهُ

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُضَحِّي مِنْ مَالِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْهُ مَا أَمْكَنَ، وَيَبْتَاعُ بِمَا بَقِيَ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ، كَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، وَفِي الْكَافِي الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ مَالِهِ أَيْ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، وَقَوْلُهُ شَاةٌ أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ بَيَانٌ لِلْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْبَدَنَةُ كُلُّهَا إلَّا عَنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ قُرْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ لَا تَتَجَزَّأُ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ»، وَلَا نَصَّ فِي الشَّاةِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَتَجُوزُ عَنْ سِتَّةٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عَنْ السَّبْعَةِ فَعَمَّنْ دُونَهُ أَوْلَى، وَلَا تَجُوزُ عَنْ ثَمَانِيَةٍ لِعَدَمِ النَّقْلِ فِيهِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَا إذَا كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنْ السُّبْعِ، وَلَا يَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

وَقَدْ عَتَرَ الرَّجُلُ يَعْتِرُ عَتْرًا بِالْفَتْحِ إذَا ذَبَحَ الْعَتِيرَةَ يُقَالُ هَذِهِ أَيَّامُ تَرْجِيبٍ، وَتِعْتَارٍ وَرُبَّمَا كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ يُنْذِرُ نَذْرًا إنْ رَأَى مَا يُحِبُّ يَذْبَحُ كَذَا، وَكَذَا مِنْ غَنَمِهِ فَإِذَا وَجَبَ ضَاقَتْ نَفْسُهُ عَنْ ذَلِكَ فَيَعْتِرُ بَدَلَ الْغَنَمِ ظِبَاءً. اهـ. وَقَالَ الْأَتْقَانِيُّ نَقْلًا عَنْ الْمُغْرِبِ وَالْعَتِيرَةُ ذَبِيحَةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ فِي رَجَبٍ يَتَقَرَّبُ بِهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَتْ. اهـ. (قَوْلُهُ: يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ تَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ) مِثْلُ تَحْصِيلِ شَاةٍ تَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَرِعَايَةِ فَرَاغِ الْإِمَامِ. اهـ. (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَيَّرٍ إجْمَاعًا) فَلَمْ يَدُلَّ الْقَصْدُ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» أَيْ مَنْ قَصَدَ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ التَّخْيِيرَ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: أَيْ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ) فَإِنْ فَعَلَ الْأَبُ لَا يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَيَضْمَنُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَإِنْ فَعَلَ الْوَصِيُّ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَضْمَنُ كَمَا لَا يَضْمَنُ الْأَبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَأْكُلُ لَا يَضْمَنُ، وَإِلَّا يَضْمَنُ. اهـ قَاضِيخَانْ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ، وَفِي الْوَصِيِّ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ بَعْضُهُمْ قَالُوا إنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَأْكُلُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَصِيِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَأْكُلُ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَصِيِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. اهـ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنْ السُّبْعِ) أَيْ لَا تَجُوزُ مِنْ صَاحِبِ الْكَثِيرِ كَمَا لَا تَجُوزُ مِنْ صَاحِبِ الْقَلِيلِ كَمَا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَخَلَّفَ امْرَأَةً وَابْنًا، وَتَرَكَ بَقَرَةً فَضَحَّيَا

<<  <  ج: ص:  >  >>