للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ فِضَّةٍ كَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَالَ «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشُّرْبِ فِي إنَاءِ الْفِضَّةِ فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الشُّرْبِ وَالْأَكْلِ فَكَذَا فِي التَّطَيُّبِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَكُونُ الْوَارِدُ فِيهِمَا وَارِدًا فِيمَا هُوَ بِمَعْنَاهَا دَلَالَةً لِمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ؛ وَلِأَنَّهُ تَنَعُّمٌ بِتَنَعُّمِ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُشْرِفِينَ، وَتَشَبُّهٌ بِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: ٢٠].

وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كُرِهَ التَّحْرِيمُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَكَذَا الْأَكْلُ بِمِلْعَقَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالِاكْتِحَالُ بِمِيلِهِمَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَمَعْنَى يُجَرْجِرُ يُرَدِّدُ مِنْ جَرْجَرَ الْفَحْلُ إذَا رَدَّدَ صَوْتَهُ فِي حَنْجَرَتِهِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: قِيلَ صُورَةُ الْإِدْهَانِ الْمُحَرَّمِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ آنِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَصُبَّ الدُّهْنَ عَلَى الرَّأْسِ أَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، وَأَخَذَ الدُّهْنَ ثُمَّ صَبَّهُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ الْيَدِ لَا يُكْرَهُ قَالَ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لَا مِنْ رَصَاصٍ وَزُجَاجٍ وَبَلُّورٍ وَعَقِيقٍ) أَيْ لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي التَّفَاخُرِ بِهِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، وَلَئِنْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ جَارِيَةً بِالتَّفَاخُرِ فِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي مَعْنَاهُمَا فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ بِهِمَا، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي مِنْ الصُّفْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ فَتَوَضَّأَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إبَاحَةِ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ بَلْ عَيْنُهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَحَلَّ الشُّرْبُ مِنْ إنَاءٍ مُفَضَّضٍ وَالرُّكُوبُ عَلَى سَرْجٍ مُفَضَّضٍ وَالْجُلُوسُ عَلَى كُرْسِيٍّ مُفَضَّضٍ، وَيَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ) أَيْ يَتَّقِي مَوْضِعَهَا بِالْفَمِ، وَقِيلَ بِالْفَمِ وَالْيَدِ فِي الْأَخْذِ، وَفِي الشُّرْبِ، وَفِي السَّرِيرِ وَالسَّرْجِ وَالْكُرْسِيِّ مَوْضِعَ الْجُلُوسِ، وَكَذَا الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْكُرْسِيُّ الْمُضَبَّبُ بِهِمَا، وَكَذَا لَوْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي نَصْلِ السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ أَوْ فِي قَبْضَتِهِمَا، وَلَمْ يَضَعْ يَدَهُ فِي مَوْضِعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَذَا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمِشْحَذِ أَوْ فِي حَلْقَةِ الْمِرْآةِ أَوْ جَعَلَ الْمُصْحَفَ مُذَهَّبًا أَوْ مُفَضَّضًا، وَكَذَا الْمُفَضَّضُ مِنْ اللِّجَامِ وَالرِّكَابِ وَالثَّفْرِ لَا يُكْرَهُ، وَكَذَا الثَّوْبُ إذَا كَانَ فِيهِ كِتَابَةٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكْرَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ يُرْوَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَعَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِمْ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَخْلُصُ، وَأَمَّا التَّمْوِيهُ الَّذِي لَا يَخْلُصُ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ فَلَا عِبْرَةَ بِبَقَائِهِ لَوْنًا لِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.

وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ؛ لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ مَنْ اسْتَعْمَلَ إنَاءً كَانَ مُسْتَعْمِلًا لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ فَيُكْرَهُ كَمَا إذَا اسْتَعْمَلَ مَوْضِعَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ «قَدَحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْكَسَرَ فَاِتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ رَأَيْت عِنْدَ أَنَسٍ قَدَحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ ضَبَّةُ فِضَّةٍ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ قَصْدًا لِلْجُزْءِ الَّذِي يُلَاقِيهِ الْعُضْوُ، وَمَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُكْرَهُ فَصَارَ كَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ وَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ، وَمِسْمَارُ الذَّهَبِ فِي فَصِّ الْخَاتَمِ، وَكَالْعِمَامَةِ الْمُعَلَّمَةِ بِالذَّهَبِ وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَقَعَتْ فِي مَجْلِسِ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّوَانِيقِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَئِمَّةُ عَصْرِهِ حَاضِرُونَ فَقَالَتْ الْأَئِمَّةُ يُكْرَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ سَاكِتٌ فَقِيلَ لَهُ مَا تَقُولُ فَقَالَ إنْ وَضَعَ فَاهُ فِي مَوْضِعِ الْفِضَّةِ يُكْرَهُ، وَإِلَّا فَلَا فَقِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ لَك فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فِي أُصْبُعِهِ خَاتَمُ فِضَّةٍ فَشَرِبَ مِنْ كَفِّهِ أَيُكْرَهُ ذَلِكَ فَوَقَفَ الْكُلُّ، وَتَعَجَّبَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ جَوَابِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَيُقْبَلُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: الْمُتْرَفِينَ) أَيْ الْمُتَنَعِّمِينَ يُقَالُ أَتْرَفَهُ أَيْ نَعَّمَهُ، وَأَتْرَفَتْهُ النِّعْمَةُ أَيْ أَطْغَتْهُ كَذَا فِي الدِّيوَانِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ) أَيْ كَالْمُكْحُلَةِ وَالْمِرْآةِ وَالْمِجْمَرَةِ

(قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ) التَّوْرُ إنَاءٌ صَغِيرٌ يُشْرَبُ فِيهِ، وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ. اهـ. مُغْرِبٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>