للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ»، وَقِيلَ بِالشَّهْرِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ، وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ، وَقَدْ مَرَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْعِزَّةَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَقِيلَ الْمُدَّةُ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْإِثْمُ فَيَحْصُلُ، وَإِنْ قَلَّتْ الْمُدَّةُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لَا غَلَّةَ ضَيْعَتِهِ، وَمَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ) أَيْ لَا يُكْرَهُ احْتِكَارُ غَلَّةِ أَرْضِهِ أَوْ احْتِكَارُ مَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ فَلَا يَكُونُ احْتِكَارًا أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ، وَلَا يَجْلِبَ فَكَذَا لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ، وَهَذَا فِي الْمَجْلُوبِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامَّةِ يَتَعَلَّقُ بِمَا جُلِبَ وَجُمِعَ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي فِنَائِهِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِمَا فِي بَلَدٍ آخَرَ فَإِذَا نَقَلَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ كَانَ لَهُ حَبْسُهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ فَصَارَ كَغَلَّةِ ضَيْعَتِهِ وَالْجَامِعُ عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ إذْ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَنْقُلَ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ فَكَذَا لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكْرَهُ لَهُ حَبْسُ مَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْعَامَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ حُصُولُهُ لَهُمْ بِأَنْ يَجْلِبَهُ غَيْرُهُ لَهُمْ أَوْ يَجْلِبُوهُ هُمْ؛ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا نَقَلَهُ هُوَ وَجَلَبَهُ فَكَانَ بِحَبْسِهِ مُبْطِلًا حَقَّهُمْ فِي النَّقْلِ وَالْجَلْبِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَبَسَ الْمَجْلُوبَ إلَى الْمِصْرِ أَوْ فِنَائِهِ بِخِلَافِ مَا زَرَعَهُ فِي ضَيْعَتِهِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ نَقَلَهُ مِنْ مَوْضِعٍ يُجْلَبُ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ فِي الْغَالِبِ يُكْرَهُ حَبْسُهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامَّةِ تَعَلَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ فِنَاءِ الْمِصْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ يُنْقَلُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ هُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا نَقَلَهُ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدِ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالْحَمْلِ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْهِمْ فَصَارَ كَغَلَّةِ ضَيْعَتِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يُسَعِّرُ السُّلْطَانُ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ عَنْ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُسَعِّرُوا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ»؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّ الْبَائِعِ فَكَانَ إلَيْهِ تَقْدِيرُهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِحَقِّهِ إلَّا إذَا كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَحَكَّمُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَعَدُّونَ تَعَدِّيًا فَاحِشًا، وَعَجَزَ السُّلْطَانُ عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى رَجُلٍ فَتَعَدَّى عَنْ ذَلِكَ فَبَاعَهُ بِثَمَنٍ فَوْقَهُ أَجَازَهُ الْقَاضِي، وَهَذَا لَا يُشْكِلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى قَوْمٍ بِعَيْنِهِمْ لَا يَكُونُ حَجْرًا بَلْ يَكُونُ فَتْوَى فِي ذَلِكَ

وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَوْ السُّلْطَانِ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِعُقُوبَتِهِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ، وَلَا بِالتَّسْعِيرِ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَبِيعَ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ، وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ، وَيَنْهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ، وَيَعِظُهُ، وَيَزْجُرُهُ عَنْهُ فَإِذَا رُفِعَ إلَيْهِ ثَانِيًا فَعَلَ بِهِ كَذَلِكَ وَهَدَّدَهُ، وَإِنْ رُفِعَ إلَيْهِ ثَالِثًا حَبَسَهُ، وَعَزَّرَهُ حَتَّى يَمْتَنِعَ عَنْهُ، وَيَزُولَ الضَّرَرُ عَنْ النَّاسِ، وَلَا يُسَعِّرُ إلَّا إذَا أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهُ إلَّا بِغَبَنٍ فَاحِشٍ ضِعْفِ الْقِيمَةِ، وَعَجَزَ عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِهِمْ إلَّا بِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْبَيْعِ بِالْكُلِّيَّةِ. قِيلَ لَا يَبِيعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَهُمَا يَرَيَانِهِ كَمَا فِي بَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ، وَقِيلَ يَبِيعُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ كَمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ

وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ، وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ أَنَّ الْبَائِعَ إنْ كَانَ يَخَافُ إذَا نَقَصَ أَنْ يَضُرَّ بِهِ الْإِمَامُ لَا يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُكْرَهِ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَعْنِي بِمَا تُحِبُّ فَحِينَئِذٍ بِأَيِّ شَيْءٍ بَاعَهُ يَحِلُّ، وَلَوْ اصْطَلَحَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى سِعْرِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَشَاعَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَاشْتَرَى رَجُلٌ مِنْهُمْ خُبْزًا بِدِرْهَمٍ أَوْ لَحْمًا فَأَعْطَاهُ الْبَائِعُ نَاقِصًا وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالنُّقْصَانِ إذَا عَرَفَ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ فِي الْخُبْزِ دُونَ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ سِعْرَ الْخُبْزِ يَظْهَرُ عَادَةً فِي الْبُلْدَانِ وَسِعْرَ اللَّحْمِ لَا يَظْهَرُ إلَّا نَادِرًا فَيَكُونُ شَارِطًا فِي الْخُبْزِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ دُونَ اللَّحْمِ. وَلَوْ خَافَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ الْهَلَاكَ أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ الْمُحْتَكَرِينَ، وَفَرَّقَهُ فَإِذَا وَجَدُوا رَدُّوا مِثْلَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَجْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ كَمَا فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَجَازَ بَيْعُ الْعَصِيرِ مِنْ خَمَّارٍ)؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَقُومُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ)، وَقَدْ رَوَيْنَا قَبْلُ عَنْ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَدَّرَ مُدَّةَ الِاحْتِكَارِ بِأَكْثَرَ السَّنَةِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ إثْمَ مَنْ تَرَبَّصَ الْقَحْطَ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ تَرَبَّصَ عِزَّةَ الطَّعَامِ، وَهِيَ الْغَلَاءُ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ الْمُدَّةُ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا) يَعْنِي أَنَّ تَقْدِيرَ مُدَّةِ الِاحْتِكَارِ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُعَزِّرَ الْإِمَامُ الْمُحْتَكِرَ، وَيُهَدِّدَهُ أَمَّا الْإِثْمُ فَيَحْصُلُ، وَإِنْ قَلَّتْ مُدَّةُ الِاحْتِكَارِ. اهـ. غَايَةُ الْبَيَانِ (قَوْلُهُ: غَيْرُ مَحْمُودَةٍ) أَيْ بِطَرِيقِ الِاحْتِكَارِ، وَأَمَّا الِاسْتِرْبَاحُ فِيهِ بِلَا احْتِكَارٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الشَّاهِيَةِ. اهـ

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: وَلَا يُسَعِّرُ السُّلْطَانُ إلَخْ)، وَقَالَ مَالِكٌ يَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَى الْوَالِي دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْعَامَّةِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ) أَيْ فِي قُوتِهِ، وَقُوتِ أَهْلِهِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: قِيلَ لَا يَبِيعُ) أَيْ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ. اهـ. (قَوْلُهُ: كَمَا فِي بَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ) أَيْ الْمُفْلِسِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْبَيْعِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَقِيلَ يَبِيعُهُ بِالْإِجْمَاعِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ، وَقِيلَ يَبِيعُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ قَالَ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا خَافَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ الْهَلَاكَ أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ الْمُحْتَكِرِينَ، وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا وَجَدُوا رَدُّوا مِثْلَهُ، وَلَيْسَ هَذَا حَجْرًا، وَإِنَّمَا هُوَ لِلضَّرُورَةِ، وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَالِ غَيْرِهِ وَخَافَ الْهَلَاكَ جَازَ لَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ. اهـ.

(قَوْلُهُ: وَقَالَا لَا يَنْبَغِي) أَيْ لَا يَجُوزُ وَبِهِ قَالَتْ الثَّلَاثَةُ. اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>