مَا شَاءَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَّكَهُ الدِّرْهَمَ فَقَدْ أَقْرَضَهُ إيَّاهُ، وَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا يُرِيدُ مِنْ التَّوَابِلِ وَالْبُقُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَهُ فِي ذَلِكَ نَفْعٌ، وَهُوَ بَقَاءُ دِرْهَمِهِ وَكِفَايَتُهُ لِلْحَاجَاتِ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُودِعَهُ إيَّاهُ ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِنْ ضَاعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَتَعْشِيرُ الْمُصْحَفِ وَنَقْطُهُ)؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالْآيَ تَوْقِيفِيَّةٌ لَيْسَ لِلرَّأْيِ فِيهَا مَدْخَلٌ فَبِالتَّعْشِيرِ حُفِظَ الْآيُ وَبِالنَّقْطِ حُفِظَ الْإِعْرَابُ فَكَانَا حَسَنَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الْعَجَمِيَّ الَّذِي يَحْفَظُ الْقُرْآنَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ إلَّا بِالنَّقْطِ فَكَانَ حَسَنًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ جَرِّدُوا الْقُرْآنَ فَذَاكَ فِي زَمَنِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُلُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أُنْزِلَ، وَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ سَهْلَةً عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ النَّقْطَ مُخِلًّا بِحِفْظِ الْإِعْرَابِ وَالتَّعْشِيرَ بِحِفْظِ الْآيِ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَجَمِيُّ فِي زَمَانِنَا فَيُسْتَحْسَنُ لِعَجْزِ الْعَجَمِيِّ عَنْ التَّعَلُّمِ إلَّا بِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا بَأْسَ بِكِتَابَةِ أَسَامِي السُّوَرِ، وَعَدِّ الْآيِ فَهُوَ، وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا فَمُسْتَحْسَنٌ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَتَحْلِيَتُهُ) أَيْ يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِهِ كَمَا فِي نَقْشِ الْمَسْجِدِ، وَتَزْيِينِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ إذَا كَانَتْ التَّحْلِيَةُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ غَيْرِ مُمَوَّهٍ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَدُخُولُ ذِمِّيٍّ مَسْجِدًا) أَيْ جَازَ إدْخَالُ الذِّمِّيِّ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: ٢٨]؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ الْجَنَابَةِ فَوَجَبَ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ، وَعَدَّى مَالِكٌ إلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّهَا تُنَزَّهُ عَنْهَا، وَلَنَا أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَضَرَبَ لَهُمْ خَيْمَةً فِيهِ فَقَالَتْ الصَّحَابَةُ الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَجَاسَتِهِمْ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا نَجَاسَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ» وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ دَخَلَ فِي حَالِ كُفْرِهِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّجَاسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ هِيَ الْخُبْثُ فِي اعْتِقَادِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَبِيحٍ رِجْسٌ، وَهُوَ النَّجَسُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَزْلَامَ وَالْمَيْسِرَ سُمِّيَتْ فِي الْقُرْآنِ رِجْسًا لِقُبْحِهَا وَالْمُرَادُ بِالْمَنْعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ عَنْ قُرْبَانِهِمْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَنْعُهُمْ عَنْ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، وَكَانَ الْحُكْمُ لَهُمْ فَيَفْعَلُونَ مَا أَرَادُوا، وَلَمَّا أَعْلَى اللَّهُ تَعَالَى كَلِمَتَهُ وَنَصَرَ دِينَهُ، وَفَتَحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْفَتْحِ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَمُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ لِقَصْدِ الطَّوَافِ بِالْكُلِّيَّةِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَعِيَادَتُهُ) أَيْ تَجُوزُ عِيَادَةُ الذِّمِّيِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ قُومُوا بِنَا نَعُودُ جَارَنَا الْيَهُودِيَّ فَعَادَهُ، وَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ الْمَرِيضُ إلَى أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ أَجِبْهُ فَأَجَابَهُ وَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ مَاتَ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَ بِي نَسَمَةً مِنْ النَّارِ»؛ وَلِأَنَّ الْعِيَادَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبِرِّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: ٨]، وَلَا بَأْسَ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ، وَعَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَزِدْ حِينَ رَدَّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَلَا يَبْدَؤُهُ بِالسَّلَامِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَهُ، وَتَكْرِيمَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةً إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِبُدَاءَتِهِ بِهِ، وَلَا يَدْعُو لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ.
وَلَوْ دَعَا لَهُ بِالْهُدَى جَازَ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ اللَّهُمَّ أَهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَوْ دَعَا لَهُ بِطُولِ الْعُمُرِ قِيلَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ التَّمَادِيَ عَلَى الْكُفْرِ، وَقِيلَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي طُولِ عُمُرِهِ نَفْعًا لِلْمُسْلِمِينَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَيَكُونُ دُعَاءً لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الدُّعَاءُ لَهُ بِالْعَافِيَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا قِيلَ لَا يَعُودُهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ يَعُودُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْغِيبَهُ فِيهِ وَتَأْلِيفَهُ، وَقَدْ نُدِبْنَا إلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ الْفَاسِقِ أَيْضًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَالْعِيَادَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ قَالَ لِوَالِدِهِ أَوْ قَرِيبِهِ فِي تَعْزِيَتِهِ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْك خَيْرًا مِنْهُ، وَأَصْلَحَك أَيْ أَصْلَحَك
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
إلَيْهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ تَحْتَ الْحَائِطِ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ تُمْلَكُ، وَلَا أَوْجَبَهَا الْقَرْضُ، وَلَوْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ لَمُنِعَ مِنْ الْجُلُوسِ فِي سِرَاجِهِ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِهِ، وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: وَلَهُ) أَيْ لِلْمُقْرِضِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَعَلَى هَذَا لَا بَأْسَ بِكِتَابَةِ أَسَامِي السُّوَرِ إلَخْ) قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ لِأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ لَا يُكْرَهُ مَا يُكْتَبُ فِي تَرَاجِمِ السُّوَرِ حَسْبَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبَانَةً عَنْ مَعْنَى السُّورَةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كِتَابَةِ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَائِلِهَا لِلْفَصْلِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِالْمَنْعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْآيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ تَوَلِّي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، وَيُعْزَلُونَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَلَى طَوَافِهِمْ عُرَاةً كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَرَ اللَّهُ بِتَنْزِيهِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَنْ ذَلِكَ لَا أَنَّ نَفْسَ الدُّخُولِ مَمْنُوعٌ يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا حَدَّثَ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّحِيحِ بِإِسْنَادِهِ إلَى حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَمْدُ اللَّهِ إلَخْ) قَالَ مُحَمَّدٌ وَبِهِ نَأْخُذُ لَا نَرَى بِعِيَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس بَأْسًا كَذَا فِي كِتَابِ الْآثَارِ لِمُحَمَّدٍ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْمَجُوسِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِعِيَادَتِهِ، وَلَكِنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِيهِ (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِ وَنِكَاحُهُمْ بِخِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. اهـ أَتْقَانِيٌّ