للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ، وَمَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّدَاوِي فَذَاكَ إذَا كَانَ يَرَى الشِّفَاءَ مِنْ الدَّوَاءِ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَالَجْ لَمَا سَلِمَ وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا التَّدَاوِي، وَلَا فَرْقَ فِي الْحُقْنَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ، وَلَا يَجُوزُ بِالنَّجَسِ كَالْخَمْرِ، وَكَذَا كُلُّ تَدَاوٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالطَّاهِرِ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْعِظَامِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الذَّكِيَّةِ أَوْ مِنْ الْمَيْتَةِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ مِنْ الْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَتْ يَابِسَةً لَيْسَ فِيهَا دُسُومَةً، وَمِنْ الذَّكِيَّةِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ إلَّا عَظْمَ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ الْخِنْزِيرُ لِنَجَاسَتِهِ وَالْآدَمِيُّ لِكَرَامَتِهِ إذْ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِأَجْزَائِهِ، وَلَا بَأْسَ بِالرُّقَى؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ النَّهْيِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَحْمُولٌ عَلَى رُقَى الْجَاهِلِيَّةِ إذْ كَانُوا يَرْقُونَ بِكَلِمَاتِ كُفْرٍ أَلَا تَرَى إلَى مَا يُرْوَى عَنْ «عُرْوَةَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَرْقِي فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ اعْرِضُوا عَلَى رُقَاكُمْ لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إنَّ «الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتُّوَلَةُ ضَرْبٌ مِنْ السَّحَرِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ هُوَ تَحْبِيبُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرُّقَى فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ فَإِنَّك نَهَيْت عَنْ الرُّقَى قَالَ فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ مَا أَرَى بَأْسًا مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ الْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْت أَنْفُثُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ يَدِي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ وَالتَّدَاوِي لَا يَمْنَعُ التَّوَكُّلَ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ طَبِيبٌ بِالدَّوَاءِ فَلَمْ يَتَدَاوَ حَتَّى مَاتَ لَا يَأْثَمُ بِخِلَافِ مَا إذَا جَاعَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ حَيْثُ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْجُوعِ بِالْأَكْلِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِإِزَالَةِ الْجُوعِ، وَخَلْقُ الشِّبَعِ عِنْدَ الْأَكْلِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْمَرَضِ عِنْدَ التَّدَاوِي فَإِنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ إذَا أَخْبَرَهُ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً، وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ مِنْ الْمُبَاحِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَالْحُرْمَةُ تَرْتَفِعُ لِلضَّرُورَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَدَاوِيًا بِالْحَرَامِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَهُ فِي دَاءٍ عُرِفَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَرِزْقُ الْقَاضِي) أَيْ حَلَّ رِزْقُ الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أُعِدَّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَاضِي مَحْبُوسٌ لِمَصَالِحِهِمْ وَالْحَبْسُ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ فَكَانَ رِزْقُهُ فِيهِ كَرِزْقِ الْمُقَاتِلَةِ وَالزَّوْجَةِ يُعْطَى مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ، وَأَهْلَهُ عَلَى هَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ «وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ إلَى مَكَّةَ، وَفَرَضَ لَهُ وَبَعَثَ عَلِيًّا، وَمُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، وَفَرَضَ لَهُمَا»، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَالْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ يَأْخُذُونَ كِفَايَتَهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَهَذَا إذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ حَلَالًا جُمِعَ بِحَقٍّ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا بِأَنْ جُمِعَ بِبَاطِلٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ فَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَاضِي مُحْتَاجًا فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَلْ يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ مَا عَلَيْهِ إلَّا بِهِ إذْ اشْتِغَالُهُ بِالْكَسْبِ يَمْنَعُهُ عَنْ إقَامَةِ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْهُ كِفَايَتَهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَفْرُغُ بِالنَّفَقَةِ الدَّائِمَةِ، وَفِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُكْمِ عَنْ أَنْ يَهُونَ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَنَظَرًا لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ مِنْ الْمُحْتَاجِينَ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ زَمَانًا يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ عِنْدَ تَوْلِيَةِ الْمُحْتَاجِ هَذَا إذَا أَعْطَوْهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَمُعَاقَدَةٍ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ بِالنَّجَسِ إلَخْ) إذَا سَالَ الدَّمُ مِنْ أَنْفِ إنْسَانٍ فَيَكْتُبُ بِالدَّمِ عَلَى جَبْهَتِهِ، وَأَنْفِهِ يَجُوزُ لِلِاسْتِشْفَاءِ وَالْمُعَالَجَةِ، وَلَوْ كَتَبَ بِالْبَوْلِ إنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً لَا بَأْسَ بِهِ لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَسْقُطُ عِنْدَ الِاسْتِشْفَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَطْشَانَ يَجُوزُ لَهُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْجَائِعَ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ. اهـ وَلْوَالِجِيٌّ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ الْكَرَاهِيَةِ، وَذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ الْكَرَاهِيَةِ مَا نَصُّهُ التَّدَاوِي بِلَبَنِ الْأَتَانِ إذَا أَشَارُوا إلَيْهِ لَا بَأْسَ بِهِ هَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْأَتَانِ حَرَامٌ وَالِاسْتِشْفَاءَ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا كُلُّ تَدَاوٍ إلَخْ) ذَكَرَ الشَّارِحُ قُبَيْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَعِشْرُونَ دَلْوًا أَنَّ التَّدَاوِيَ بِالطَّاهِرِ الْحَرَامِ كَلَبَنِ الْأَتَانِ لَا يَجُوزُ فَمَا ظَنُّك بِالنَّجَسِ. اهـ.، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْمَقَالَةِ نَقْلًا عَنْ النِّهَايَةِ مَا يُخَالِفُ هَذَا. اهـ. (قَوْلُهُ: قَالَ إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ إلَخْ)، وَهَذَا إذَا فَعَلَ الْحُقْنَةَ لِلدَّوَاءِ فَإِنْ فَعَلَ لِأَجْلِ السَّمْنِ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْهُزَالَ إذَا تَنَاهَى بِهِ يُورِثُ السُّلَّ. اهـ غَايَةٌ.

(قَوْلُهُ: وَالتُّوَلَةُ) كَذَا ضَبَطَهُ الشَّارِحُ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَالتَّدَاوِي لَا يَمْنَعُ التَّوَكُّلَ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى أَنَّ التَّوَكُّلَ الْمَأْمُورَ بِهِ بَعْدَ كَسْبِ الْأَسْبَابِ ثُمَّ التَّوَكُّلُ بَعْدَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْأَسْبَابِ يَعْنِي أَنَّ التَّوَكُّلَ مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ لَا مَعَ قَطْعِ الْأَسْبَابِ لَكِنْ بَعْدَ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ يَعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْأَسْبَابِ، وَالْحُقْنَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ إلَخْ) هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ النِّهَايَةِ نَقَلَهُ عَنْهَا أَيْضًا فِي الْأَشْرِبَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ عَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ. اهـ.

(قَوْلُهُ: وَفَرَضَ لَهُ) أَيْ كُلَّ سَنَةٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةٍ. اهـ. غَايَةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>