وَأَبَاحَ الشَّافِعِيُّ الشِّطْرَنْجَ مِنْ غَيْرِ قِمَارٍ، وَلَا إخْلَالٍ بِحِفْظِ الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْحِيذَ الْخَاطِرِ، وَتَذْكِيَةَ نَارِ الْإِفْهَامِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا، وَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ الشِّطْرَنْجَ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؛ وَلِأَنَّهُ لَعِبٌ يَصُدُّ صَاحِبَهُ عَنْ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَالِبًا فَيَكُونُ حَرَامًا كَالنَّرْدَشِيرِ وَالنَّرْدِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ الَّتِي ذَكَرَهَا فَمَغْلُوبَةٌ تَابِعَةٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْغَالِبِ فِي التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: ٢١٩] فَاعْتَبَرَ الْغَالِبَ فِي التَّحْرِيمِ، وَهَلْ رُئِيَ مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ يُصَلِّي فَضْلًا عَنْ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ صَلَّى فَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَكَانَ فِي إبَاحَتِهِ إعَانَةُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ إنْ كَانَ يُقَامِرُ بِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ، وَكَانَ مُتَأَوِّلًا، وَلَمْ يَصُدَّهُ ذَلِكَ عَنْ الصَّلَاةِ لَمْ تَسْقُطْ عَدَالَتُهُ، وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ بَأْسًا لِيُشْغِلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَكَرِهَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَحْقِيرًا لَهُمْ، وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ كَيْفَ أُسَلِّمُ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ ضَرَبَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَلَا بَأْسَ بِالْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ وَالْفَرَسِ وَالْإِبِلِ إنْ شُرِطَ الْمَالُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ سَبَقَتْنِي فَلَكَ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُك فَلَا شَيْءَ لِي لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا سَبَقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ وَحَرُمَ لَوْ شُرِطَ الْمَالُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ إنْ سَبَقَ فَرَسُك أَعْطَيْتُك كَذَا، وَإِنْ سَبَقَ فَرَسِي فَاعْطِنِي كَذَا إلَّا إذَا أَدْخَلَا ثَالِثًا بَيْنَهُمَا، وَقَالَا لِلثَّالِثِ إنْ سَبَقْتنَا فَالْمَالَانِ لَك، وَإِنْ سَبَقْنَاك فَلَا شَيْءَ لَنَا عَلَيْك، وَلَكِنْ أَيُّهُمَا سَبَقَ صَاحِبَهُ أَخَذَ الْمَالَ الْمَشْرُوطَ، وَكَذَا الْمُتَفَقِّهَةُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا الَّذِي مَعَهُ الصَّوَابُ صَحَّ، وَإِنْ شَرْطَاهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْمُسَابَقَةِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَجَعْلُ الرَّايَةِ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ) أَيْ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّهْوِ وَصُورَتُهُ أَنْ يُجْعَلُ فِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مُسَمَّرٌ بِمِسْمَارٍ عَظِيمٍ يَمْنَعُهُ مِنْ تَحْرِيكِ رَأْسِهِ، وَهُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ الظَّلَمَةِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ الْكُفَّارِ فَيَحْرُمُ كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ»، وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ عَلَامَةٌ بِأَنَّهُ آبِقٌ، وَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ فِي زَمَانِنَا لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ خُصُوصًا فِي الْهُنُودِ، وَكَانَ فِي زَمَانِهِمْ مَكْرُوهًا لِقِلَّةِ الْإِبَاقِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَحَلُّ قَيْدِهِ) أَيْ جَازَ قَيْدُ الْعَبْدِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِبَاقِ وَالتَّمَرُّدِ، وَهُوَ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفُسَّاقِ بِخِلَافِ الرَّايَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ».
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالْحُقْنَةُ) أَيْ جَازَتْ الْحُقْنَةُ لِلتَّدَاوِي وَجَازَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، وَإِذَا أَصَابَ الدَّوَاءُ الدَّاءَ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ وَرُوِيَ أَنَّ «الْأَعْرَابَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى قَالَ نَعَمْ عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً أَوْ دَوَاءً إلَّا دَاءً وَاحِدًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ قَالَ الْهَرَمُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ التَّدَاوِيَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرِقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ إنِّي أُبَرْسَمُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ إنْ شِئْتِ صَبَرْت، وَلَك الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْت اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَافِيَك فَقَالَتْ أَصْبِرُ فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا» رَوَاهُ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، وَأَحْمَدُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى دَاءً إلَّا أَنْزَلَ شِفَاءً» وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَدَاوَى وَاحْتَجَمَ.
وَقَالَ جَابِرٌ إنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ مَرَّتَيْنِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ تَدَاوَى إذَا كَانَ يَرَى أَنَّ الشَّافِيَ هُوَ اللَّهُ دُونَ الدَّوَاءِ، وَأَنَّ الدَّوَاءَ جَعَلَهُ سَبَبًا لِذَلِكَ وَالْمُعَافِي فِي
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
( قَوْلُهُ: كَالنَّرْدَشِيرِ وَالنَّرْدِ) كَذَا هُوَ بِخَطِّ الشَّارِحِ وَالنَّرْدُ هُوَ النَّرْدَشِيرُ قَالَ فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ النَّرْدُ مَعْرُوفٌ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ هُوَ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ». اهـ.، وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ النَّرْدُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ وَشِيرُ بِمَعْنَى حُلْوٍ. اهـ. وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَالنَّرْدُ مَعْرُوفٌ شَيْءٌ يُلْعَبُ بِهِ، وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، وَهُوَ النَّرْدَشِيرُ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ بَأْسًا إلَخْ)، وَأَوْرَدَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ سُؤَالًا وَجَوَابًا فَقَالَ فَإِنْ قِيلَ إذَا لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَلُّمَ الْحَرْبِ قِيلَ لَهُ يَكُونُ وِزْرُهُ أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ اتَّخَذَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةَ، وَيُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ الطَّاعَةَ. اهـ غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ بِالْمُسَابَقَةِ إلَخْ) تَرْجَمَ الشَّيْخُ الشِّلْبِيُّ هُنَا فَقَالَ (فَصْلٌ فِي الْمُسَابَقَةِ) (قَوْلُهُ: لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْمُسَابَقَةِ) وَسَيَأْتِي أَحْكَامُ الْمُسَابَقَةِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي مَسَائِلَ شَتَّى آخِرَ الْكِتَابِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: صُورَتُهُ أَنْ يُجْعَلَ فِي عُنُقِهِ طَوْقٌ) أَيْ مِنْ حَدِيدٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ، وَفِي شَرْحِ الْعَيْنِيِّ بِخَطِّهِ طَوْقٌ مِنْ خَشَبٍ. اهـ. قَوْلُهُ: مِنْ حَدِيدٍ، وَكَذَا فِي شَرْحِ مُنْلَا مِسْكِينٍ. اهـ.
(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَحَلُّ قَيْدِهِ) وَاَلَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ وَحَلُّ عَقْدِهِ. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute