بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ خَاصٌّ، وَمَا لَا تُسْتَحَقُّ بِهِ عَامٌّ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْعَامِّ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ بِإِلْزَامِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بَلْ وَاجِبٌ إذَا تَعَيَّنَ مِدْفَعًا فَبِدُونِ الضَّرَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْآبِيَ لَا يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ بَلْ يَحْصُلُ لَهُ نَفْعٌ بِمُقَابَلَتِهِ فَأَمْكَنَ إجْبَارُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ خَاصًّا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَامٍّ، وَإِنَّمَا فِيهِ دَفْعُ ضَرَرٍ خَاصٍّ، وَهُوَ ضَرَرُ شُرَكَائِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا، وَيُمْكِنُ دَفْعُ ضَرَرِ شُرَكَائِهَا بِدُونِ ذَلِكَ بِأَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَاضِي بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَامًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ وَرُبَّمَا لَا تُقْبَلُ الْمُؤْنَةُ الْقِسْمَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَدْرِي حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يُقَالُ فِي كَرْيِ النَّهْرِ الْخَاصِّ إحْيَاءُ حُقُوقِ أَهْلِ الشَّفَةِ فَيَكُونُ فِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ عَامٌّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا جَبْرَ لِأَجْلِ حَقِّ أَهْلِ الشَّفَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الشُّرْبِ كُلَّهُمْ لَوْ امْتَنَعُوا عَنْ الْكَرْيِ لَا يُجْبِرُهُمْ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا عَنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهِمْ، وَلَوْ كَانَ حَقُّ الشَّفَةِ مُعْتَبَرًا لَأُجْبِرُوا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِنْ جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ بَرِيءٍ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا مُؤْنَةُ الْكَرْيِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ إلَى آخِرِهِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِالْأَسْفَلِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِالْأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَسْيِيلِ الْفَاضِلِ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّهُ إذَا سَدَّ عَلَيْهِ فَاضَ الْمَاءُ عَلَى أَرْضِهِ، وَأَفْسَدَ زَرْعَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ فَلِهَذَا يَسْتَوُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهِ فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْغُنْمِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوُوا فِي الْغُرْمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُؤْنَةَ الْكَرْيِ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ، وَيَسْقِي الْأَرَاضِيَ مِنْهُمْ فَإِذَا جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُ فِي كَرْيِ مَا بَقِيَ مَنْفَعَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ مُؤْنَتِهِ وَبِانْتِفَاعِهِ فِي أَسْفَلَ مِنْ حَيْثُ إجْرَاءُ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ عِمَارَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ تَسْيِيلِ مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ عِمَارَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِاعْتِبَارِ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْمَاءِ عَنْهُ بِسَدِّ فُوَّهَةِ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَرْيِ مِنْ أَسْفَلَ وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكَرْيَ إذَا انْتَهَى إلَى فُوَّهَةِ أَرْضِهِ مِنْ النَّهْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُؤْنَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ حَدَّ أَرْضِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ الْفُوَّهَةَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ أَرْضِهِ إنْ شَاءَ مِنْ أَعْلَى، وَإِنْ شَاءَ مِنْ أَسْفَلَ فَكَانَ مُنْتَفِعًا بِالْكَرْيِ انْتِفَاعَ سَقْيِ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ حَدَّ أَرْضِهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا كَرْيَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ)؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ إذْ أَهْلُ الدُّنْيَا كُلُّهُمْ لَهُمْ حَقُّ الشَّفَةِ، وَمُؤْنَةُ الْكَرْيِ لَا تَجِبُ عَلَى قَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَفْرِ الْأَنْهَارِ وَنَحْوِهَا سَقْيُ الْأَرَاضِي، وَأَهْلُ الشَّفَةِ أَتْبَاعٌ وَالْمُؤْنَةُ تَجِبُ عَلَى الْأُصُولِ دُونَ الْأَتْبَاعِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الشُّفْعَةَ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَتَصِحُّ دَعْوَى الشِّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ)، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَالشُّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ؛ وَلِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الْمُدَّعَى إذَا ثَبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالشُّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِدُونِ أَرْضٍ فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي فِيهِ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةَ كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشُّرْبَ مَرْغُوبٌ فِيهِ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُمْلَكَ بِغَيْرِ أَرْضٍ بِالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ دُونَ الشُّرْبِ فَيَبْقَى لَهُ الشُّرْبُ وَحْدَهُ فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْضٌ وَلِآخَرَ فِيهَا نَهْرٌ فَأَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ لَا يُجْرِيَ النَّهْرَ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَيُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّهْرِ مِنْهَا فِي يَدِ رَبِّ النَّهْرِ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ مِلْكُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا فِيهَا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا فَيَقْضِيَ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكَ الرَّقَبَةِ إذَا كَانَ الدَّعْوَى فِيهِ أَوْ حَقُّ الْإِجْرَاءِ بِإِثْبَاتِ الْمَجْرَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمِلْكِ، وَعَلَى هَذَا الْمَصَبُّ فِي نَهْرٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ الْمِيزَابُ أَوْ الْمَمْشَى فِي دَارِ غَيْرِهِ فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ نَظِيرُهُ فِي الشُّرْبِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ اخْتَصَمُوا فِي الشُّرْبِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيِهِمْ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشُّرْبِ سَقْيُ الْأَرَاضِيِ وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْأَرَاضِي، وَكَثْرَتِهَا وَالظَّاهِرُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)، وَفِي الْخَانِيَّةِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِ. اهـ ابْنُ فِرِشْتَا.
(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ، وَلَا كَرْيَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ) أَصْلُ الشَّفَةِ شَفَهَةٌ وَلِهَذَا تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهَا شُفَيْهَةٌ، وَفِي جَمْعِهَا شِفَاهُ، وَالتَّصْغِيرُ وَالتَّكْثِيرُ يَرُدَّانِ الْأَشْيَاءَ إلَى أَصْلِهَا وَحُذِفَتْ الْهَاءُ تَخْفِيفًا يُقَالُ هُمْ أَهْلُ الشَّفَةِ أَيْ لَهُمْ حَقُّ الشُّرْبُ بِشَفَاهُمْ، وَأَنْ يَسْقُوا بَهَائِمَهُمْ. اهـ أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ: وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَخْتَلِفُ إلَخْ) قَالَ فِي الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ النَّهْرُ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرْضُونَ، وَلَا يُعْرَفُ كَيْفَ أَصْلُهُ بَيْنَهُمْ فَاخْتَلَفُوا وَاخْتَصَمُوا فِي الشُّرْبِ فَالشُّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيِهِمْ قَالَ فِي الْأَجْنَاسِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ صَاحِبِ كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ وَلِلْآخَرِ عَشَرَةٌ إلَّا أَنَّ أَرْضَهُ لَا تَكْتَفِي لِلزِّرَاعَةِ بِقَدْرِ الْمَاءِ يَأْخُذُهُ فَعَلَى مَا قَالَهُ الْمَاءُ بَيْنَهُمْ نِصْفَانِ، وَعَلَى قَوْلِ الدَّقَّاقِ لَهُ أَخْذُ الْمَاءِ زِيَادَةً. اهـ أَتْقَانِيٌّ قَوْلُهُ: وَلَا يُعْرَفُ كَيْفَ أَصْلُهُ إلَخْ فَأَمَّا إذَا عُلِمَ يُقْسَمُ عَلَى مَا كَانَ. اهـ أَتْقَانِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute