تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ غَاصِبُهَا وَمُتْلِفُهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ مَالِيَّتِهَا وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَالٌ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَيْهَا وَتَضِنُّ بِهَا وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجِسِ حَرَامٌ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاجْتِنَابِهَا وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهَا اقْتِرَابُهَا وَالثَّامِنُ أَنْ يُحَدَّ شَارِبُهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَالتَّاسِعُ أَنَّ الطَّبْخَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا لِأَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لَا لِرَفْعِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ فِي النِّيءِ خَاصَّةً لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْمَطْبُوخِ وَالْعَاشِرُ جَوَازُ تَخْلِيلِهَا عَلَى مَا يَجِيءُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالطِّلَاءُ، وَهُوَ الْعَصِيرُ إنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ) وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: الطِّلَاءُ اسْمٌ لِلْمُثَلَّثِ، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَصَارَ مُسْكِرًا، وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ الطِّلَاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ عَلَى مَا يَجِيءُ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طِلَاءً لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا أَشْبَهُ هَذَا بِطِلَاءِ الْبَعِيرِ وَهُوَ الْقَطْرَانُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْبَعِيرُ إذَا كَانَ بِهِ جَرَبٌ، وَهُوَ يُشْبِهُهُ، وَفِي الْهِدَايَةِ هُوَ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَهُوَ الَّذِي طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ الذَّاهِبُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْهِ وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَإِذَا اشْتَدَّ وَلَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إنَّهُ مُبَاحٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَيِّبٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ وَلَنَا أَنَّهُ كَالْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ، وَلِهَذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ فَيَحْرُمُ شُرْبُهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ كَالْخَمْرِ بِخِلَافِ الْمُثَلَّثِ، فَإِنَّهُ ثَخِينٌ وَلَيْسَ بِرَقِيقٍ فَلَا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالسَّكَرُ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ)، وَهُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ سَكَرَتْ الرِّيحُ إذَا سَكَنَتْ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ إذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ وَقَبْلَهُ حَلَالٌ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ مُبَاحٌ، وَإِنْ قَذَفَ بِالزَّبَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: ٦٧] امْتَنَّ عَلَيْنَا بِهِ وَالِامْتِنَانُ لَا يَتَحَقَّقُ بِالْمُحَرَّمِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً وَقِيلَ أُرِيدَ بِهَا التَّوْبِيخُ مَعْنَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدْعُونَهُ رِزْقًا حَسَنًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ)، وَهُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا اشْتَدَّ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى الْخَدَمَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ أَهْرَقَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَأُهْرِيقَ» وَشَرْطُ حُرْمَتِهِ أَنْ يَقْذِفَ بِالزَّبَدِ بَعْدَ الْغَلَيَانِ وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ كَمَا فِي الْبَاذَقِ وَالْوَجْهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيهِ ثُمَّ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا حَتَّى يَسْكَرَ وَنَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ فِي رِوَايَةٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْغَصْبِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا قَطْعِيَّةٌ فَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا وَيُحَدُّ شَارِبُهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ وَلَوْ قَطْرَةً وَنَجَاسَتُهَا غَلِيظَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا وَحُرْمَةُ غَيْرِهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ فَلَا يَكُونُ مِثْلُهَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْكُلُّ حَرَامٌ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَحُرْمَتُهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ) فَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهَا وَأَحْكَامَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْحَلَالُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ نَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ، وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شَرِبَ مَا لَا يُسْكِرُهُ بِلَا لَهْوٍ وَطَرَبٍ وَالْخَلِيطَانِ وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ طُبِخَ أَوَّلًا وَالْمُثَلَّثُ الْعِنَبِيُّ) أَمَّا الْأَوَّلُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ حَتَّى لَا يَضْمَنَ غَاصِبُهَا وَمُتْلِفُهَا) ثُمَّ هَلْ يُبَاحُ إتْلَافُ الْخَمْرِ نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ مَجْدِ الدِّينِ الشرخلتي أَنَّهُ قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ الْإِتْلَافُ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَمَا إذَا كَانَتْ عِنْدَ فَاسِقٍ يَشْرَبُهَا غَالِبًا لَوْ تُرِكَتْ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ عِنْدَ صَالِحٍ لَا يُبَاحُ الْإِتْلَافُ، فَإِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَفِي بَقَائِهَا فَائِدَةٌ، وَهِيَ التَّخْلِيلُ اهـ أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَالٌ) وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ لِمَا قُلْنَا. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَتَضِنُّ بِهَا) مِنْ الضِّنِّ، وَهُوَ مَا تَخْتَصُّهُ وَتَضَنُّ بِهِ أَيْ تَبْخَلُ لِمَكَانِهِ مِنْك وَمَوْقِعِهِ عِنْدَك وَمِنْهُ سَاعَةُ الْجُمُعَةِ فَقُلْت: أَخْبِرْنِي بِهَا وَلَا تَضْنَنْ بِهَا عَلَيَّ أَيْ لَا تَبْخَلْ يُقَالُ ضَنِنْت أَضَنُّ وَضَنِنْت أَضِنُّ. اهـ. ابْنُ الْأَثِيرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(قَوْلُهُ، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ، وَهُوَ مَا إذَا طُبِخَ إلَخْ. اهـ. (قَوْلُهُ عَلَى مَا يَجِيءُ مِنْ قَرِيبٍ) أَيْ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ. اهـ. (قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طِلَاءً إلَخْ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطِّلَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ الشَّرَابُ الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهُوَ الرُّبُّ وَأَصْلُهُ الْقَطِرَانُ الْخَاثِرُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ اهـ وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَالطِّلَاءُ كُلُّ مَا يُطْلَى بِهِ مِنْ قَطِرَانٍ أَوْ نَحْوِهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ مَا أَشْبَهَ هَذَا بِطِلَاءِ الْإِبِلِ وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا خَثَرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ طِلَاءٌ عَلَى التَّشْبِيهِ حَتَّى سُمِّيَ الْمُثَلَّثُ. اهـ. (قَوْلُهُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ) أَيْ السَّابِقِ فِي الْخَمْرِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ اهـ.
(قَوْلُهُ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ) اُنْظُرْ الْهِدَايَةَ وَشَرْحَ الْأَتْقَانِيِّ اهـ (قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ إذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ كَالْخَمْرِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَرِزْقًا حَسَنًا) كَالدِّبْسِ وَالْخَلِّ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ ثُمَّ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) أَيْ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الطِّلَاءُ وَالسَّكَرُ وَنَقِيعُ الرُّطَبِ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute