وَهُوَ نَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ، وَهُوَ أَنْ يُطْبَخَ إلَى أَنْ يَنْضَجَ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا وَلَا تَنْتَبِذُوا الرُّطَبَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا لَكِنْ انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَذَكَرَ التَّمْرَ بَدَلَ الرُّطَبِ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَاحٌ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا فِي الِانْتِبَاذِ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا أَوْ بُسْرًا فَرْدًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَقَدْ وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا صِحَاحٌ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ يَحِلُّ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَطْبُوخِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَطْبُوخِ مِنْهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا
وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ فَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْمَطْبُوخِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْخَمْرِ؛ فَلِهَذَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ وَقَدْ وَرَدَ فِي حُرْمَةِ الْمُتَّخَذِ مِنْ التَّمْرِ أَحَادِيثُ كُلُّهَا صِحَاحٌ فَإِذَا حُمِلَ الْمُحَرَّمُ عَلَى النِّيءِ وَالْمُحَلَّلُ عَلَى الْمَطْبُوخِ فَقَدْ حَصَلَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَانْدَفَعَ التَّعَارُضُ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ الْخَلِيطَانِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «كُنَّا نَنْتَبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِقَاءٍ فَنَأْخُذُ قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ وَقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ فَنَطْرَحُهُمَا فِيهِ ثُمَّ نَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَنَنْتَبِذُهُ غَدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً وَنَنْتَبِذُهُ عَشِيَّةً فَيَشْرَبُهُ غَدْوَةً» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ شَرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي فَغَدَوْت إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَطْبُوخِ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ حُرْمَةُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ النِّيءِ مِنْهُ وَمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطِ فِيمَا رَوَيْنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْقَحْطِ وَالْعَوَزِ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ وَجَارُهُ مُحْتَاجٌ بَلْ يُؤْثِرُ بِإِحْدَاهُمَا جَارَهُ وَالْإِبَاحَةُ كَانَتْ فِي حَالَةِ السَّعَةِ
وَالْحَمْلُ مَأْثُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا خَصَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ أَيْ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ لَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُسَمَّى خَمْرًا حَقِيقَةً وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الطَّبْخُ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يُفْضِي إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ، وَأَمَّا الرَّابِعُ، وَهُوَ الْمُثَلَّثُ، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى الثُّلُثُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ الطِّلَاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ الثُّلُثُ رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَهُ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: رَأْيُ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٍ شُرْبُ الطِّلَاءِ عَلَى الثُّلُثِ، وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ شُرْبِ الطِّلَاءِ إذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ قُلْت إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ يُسْكِرُ فَقَالَ لَا يُسْكِرُ لَوْ كَانَ يُسْكِرُ لَمَا أَحَلَّهُ عُمَرُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ مِنْ الصَّدِّ وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ بِالشُّرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهَا حُرِّمَتْ لِعَيْنِهَا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا السُّكْرُ؛ وَلِأَنَّ قَلِيلَهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا كَذَلِكَ الْمُثَلَّثُ؛ لِأَنَّهُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كُلُّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبِتْعِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ) وَالزَّهْوُ الْمُلَوَّنُ مِنْ الْبُسْرِ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ. اهـ. مُغْرِبٌ (قَوْلُهُ مُبَاحٌ) أَيْ عَلَى الِانْفِرَادِ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي سِقَايَةٍ) السِّقَايَةُ إنَاءٌ يُشْرَبُ مِنْهُ. اهـ. ابْنُ الْأَثِيرِ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ أَوْ سُقَاةٍ اهـ يُرَاجَعُ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي ابْنِ مَاجَهْ. اهـ. (قَوْلُهُ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ وَجَارُهُ مُحْتَاجٌ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ يَجُوزُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ قَالُوا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ» قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي شَرْحِهِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ شِدَّةٌ وَضِيقٌ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ يَعْنِي إنَّمَا نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ حَتَّى لَا يَشْبَعَ هُوَ وَجَارُهُ جَائِعٌ بَلْ يَأْكُلُ إحْدَاهُمَا وَيُؤْثِرُ بِالْأُخْرَى جَارَهُ ثُمَّ لَمَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ النِّعْمَةَ أَبَاحَ الْجَمْعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: ٥١] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ اهـ مَا قَالَهُ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ وَلَهُ مِثْلُهُ إلَخْ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَا أُفْتِي بِحُرْمَتِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْسِيقَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا مَا شَرِبْته؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَهَذَا غَايَةُ تَقْوَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ مِنْ الصَّدِّ) أَيْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ كَمَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: ٩٠] إلَى قَوْلِهِ {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ} [المائدة: ٩١] الْآيَةَ فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهِيَ عَنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَاتِّبَاعِ الْعَدَاوَةِ (قَوْلُهُ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) هَذَا إذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَأَمَّا إذَا طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ فَقَدْ حَكَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّبِيبِ حَتَّى لَوْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يَحِلُّ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ اهـ بَدَائِعُ سَيَأْتِي مَعْنَى هَذِهِ الْحَاشِيَةِ قُبَيْلَ قَوْلِهِ فِي الْمَتْنِ وَحَلَّ الِانْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ اهـ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute