اشْتِرَاطُ الْعَمْدِيَّةِ فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهَا وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» الْحَدِيثَ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ السِّلَاحِ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى السِّلَاحِ؛ فَلِأَنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَصْدُ، وَهُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إذْ هُوَ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَأُقِيمَ اسْتِعْمَالُ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ غَالِبًا مَقَامَهُ تَيْسِيرًا كَمَا أُقِيمَ السَّفَرُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ.
وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا مَقَامَ الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَالْبُلُوغُ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ تَيْسِيرًا وَالْآلَةُ الْقَاتِلَةُ غَالِبًا هِيَ الْمُحَدَّدَةُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُعَدَّةُ لِلْقَتْلِ، وَمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ، فَلَيْسَ بِمُعَدٍّ لَهُ حَتَّى لَوْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ أَوْ خَشَبَةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ بِصَنْجَةِ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا يَجِيءُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَذَكَرَ قَاضِيخَانْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْجُرْحَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَدِيدِ وَمَا يُشْبِهُ الْحَدِيدَ كَالنُّحَاسِ وَغَيْرِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْمَأْثَمِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: ٩٣] الْآيَةَ.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فِسْقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْقِصَاصِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: ١٧٨] وقَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: ٤٥] وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَتْلُ الْعَمْدُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ خَطَأً بِقَوْلِهِ {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: ٩٢] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ»؛ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ قِصَاصًا نِهَايَةُ الْعُقُوبَةِ فَلَا يُشْرَعُ إلَّا إذَا تَنَاهَتْ الْجِنَايَةُ، وَلَا تَتَنَاهَى إلَّا بِالْعَمْدِ.
لِأَنَّ الْخَطَأَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، فَلَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ الْمُتَنَاهِيَةَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (إلَّا أَنْ يُعْفَى) أَيْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ فَيَسْقُطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِهِمْ، فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ إنْ كَانَ الْعَفْوُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَإِنْ كَانَ بِبَدَلٍ يَجِبُ الْمَشْرُوطُ بِالصُّلْحِ لَا بِالْقَتْلِ وَقَالَ الشَّافِعِيِّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَفِي قَوْلٍ عَنْهُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقَوَدُ عَيْنًا لَكِنْ لِلْوَلِيِّ حَقُّ الْعُدُولِ إلَى الْمَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يُودِيَ» وَقَالَ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا».
وَهَذَا نَصٌّ عَلَى التَّخْيِيرِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ شُرِعَ جَابِرًا وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعُ جَبْرٍ فَيَتَخَيَّرُ فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ كَالْكَفَّارَاتِ أَوْ فِي الْعُدُولِ إلَى الْمَالِ بَعْدَ الْوُجُوبِ كَالْمِثْلِيِّ الْمُنْقَطِعِ، فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رِضَاهُ لِتَعَيُّنِهِ مَدْفَعًا لِلْهَلَاكِ، وَهُوَ بِامْتِنَاعِهِ مُتَعَنِّتٌ وَمُلْقٍ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالْمُضْطَرِّ إذَا وَجَدَ مَالَ الْغَيْرِ، وَمَعَهُ ثَمَنُهُ، فَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لَهُ شَرْعًا وَالْآدَمِيُّ قَدْ يَضْمَنُ بِالْمَالِ كَمَا فِي الْخَطَأِ وَلَنَا مَا تَلَوْنَا وَمَا رَوَيْنَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَتْلُ الْعَمْدُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» لِلْجِنْسِ لِعَدَمِ الْعَهْدِ فَيَقْتَضِي أَنَّ جِنْسَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ لَا الْمَالِ وَمَنْ جَعَلَهُ مُوجِبًا لِلْمَالِ فَقَدْ زَادَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِقَوْلِهِ الْعَمْدُ قَوَدٌ لَا مَالَ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ لَا يَصْلُحُ مُوجَبًا لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآدَمِيِّ صُورَةً وَمَعْنًى إذْ الْآدَمِيُّ خُلِقَ مُكَرَّمًا لِيَتَحَمَّلَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
مِثْلَ هَذَا لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ عَادَةً هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْعُيُونِ فَقَتْلُ الْعَمْدِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ مُوجَبُ قَتْلِ الْعَمْدِ الْقَوَدُ وَقَتْلُ الْعَمْدِ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى السِّلَاحِ كَالْآلَةِ الَّتِي تَقْطَعُ وَتَجْرَحُ كَلِيطَةِ قَصَبٍ وَحَجَرٍ لَهُ حِدَةٌ لِصِحَابِهَا وَعَمُودِ حَدِيدٍ وَسَنْجَةِ حَدِيدٍ الصَّحِيحُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يَجْرَحُ اهـ.
وَقَالَ الْأَتْقَانِيُّ: عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِمَرٍّ فَقَتَلَهُ قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَسَنَجَاتُ الْمِيزَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُ الْجُرْحُ أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اهـ وَقَدْ نَقَلْت عِبَارَةَ الْأَتْقَانِيِّ بِتَمَامِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْكَنْزِ وَمَنْ قَتَلَهُ بِمَرٍّ فَارْجِعْ إلَيْهَا إنْ شِئْت وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ اهـ قَوْلُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا هُمَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَرِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ. اهـ. (قَوْلُهُ وقَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: ٤٥] إلَى آخِرِ الْآيَةِ) وقَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] وَشَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا تَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ رَسُولِنَا مَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: ٣٣] وَالسُّلْطَانُ الْقَتْلُ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: ٣٣] وَإِنَّمَا قَيَّدْنَاهُ بِالْعَمْدِ، وَإِنْ كَانَتْ النُّصُوصُ مُطْلَقَةً؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا أَيْضًا جِنَايَةً مَحْضَةً، وَهُوَ الْعَمْدُ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْخَطَأَ فِيهِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَوْ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ حُكْمُ الْعَمْدِ قَوَدٌ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(فَرْعٌ) ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ بِأَنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا مُخَاطَبًا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ مَعْصُومُ الدَّمِ عِصْمَةً أَبَدِيَّةً وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا شُبْهَة مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةَ الْوِلَادَةِ أَيْ لَا يَكُونُ وَلَدَهُ وَإِنْ سَفَلَ وَأَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ وَيَقْتَصُّ بِالسَّيْفِ وَلَا يُقْتَلُ بِمَا قَتَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقِصَاصِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْتَلُ بِمَا قَتَلَ بِهِ كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ إلَّا أَنْ يُعْفَى) تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ كِتَابِ السِّيَرِ مَتْنًا وَشَرْحًا أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا لَا وَلِيَّ لَهُ أَوْ حَرْبِيًّا جَاءَنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ يَنْظُرُ فِيهِمَا الْإِمَامُ فَأَيَّهُمَا رَأَى أَصْلَحَ فَعَلَ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ مَجَّانًا اهـ فَلْيُرَاجَعْ ذَلِكَ اهـ قَوْلُهُ أَوْ الدِّيَةُ أَيْ إذَا رَضِيَ بِهَا الْقَاتِلُ. اهـ. (قَوْلُهُ كَالْمِثْلِيِّ الْمُنْقَطِعِ) يَعْنِي إذَا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلِيٌّ بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّ الطَّالِبَ يُخَيَّرُ إنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْقِيمَةِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ إلَى أَنْ يَجِيءَ الْمِثْلُ اهـ مِنْ خَطِّ الشَّارِحِ.
(قَوْلُهُ وَمَا رَوَيْنَا)، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» اهـ