للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التَّكَالِيفَ وَيَشْتَغِلَ بِالطَّاعَةِ وَلِيَكُونَ خَلِيفَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ وَالْمَالُ خُلِقَ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِهِ وَمُبْتَذَلًا لَهُ فِي حَوَائِجِهِ فَلَا يَصْلُحُ جَابِرًا وَقَائِمًا مَقَامَهُ وَالْقِصَاصُ يَصْلُحُ لِلتَّمَاثُلِ صُورَةً؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِقَتْلٍ وَكَذَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ الِانْتِقَامُ.

وَالثَّانِي فِيهِ كَالْأَوَّلِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ قِصَاصًا وَبِهِ يَحْصُلُ مَنْفَعَةُ الْإِحْيَاءِ لِكَوْنِهِ زَاجِرًا لَا يَأْخُذُ الْمَالَ فَتَعَيَّنَ مُوجَبًا لَا الْمَالَ؛ وَلِهَذَا يُضَافُ مَا وَجَبَ مِنْ الْمَالِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ إلَى الصُّلْحِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا»، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا مُوجِبًا لِلْمَالِ لَمَا أَضَافَهُ إلَى الصُّلْحِ، وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ الْجِرَاحَاتِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَفِي الصُّلْحِ مَا يُمْكِنُ فِي النَّفْسِ وَغَيْرِهِ وَبِهِ يَسْتَقِيمُ، وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْوَلِيِّ عِنْدَ إعْطَاءِ الْقَاتِلِ الدِّيَةَ وَتَخْيِيرُهُ لَا يُنَافِي رِضَا الْآخَرِ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ.

وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لِلدَّائِنِ خُذْ بِدَيْنِك إنْ شِئْت دَرَاهِمَ، وَإِنْ شِئْت دَنَانِيرَ، وَإِنْ شِئْت عُرُوضًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ غَيْرَ حَقِّهِ إلَّا بِرِضَا الْمَدِينِ، وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْكَلَامِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِكِ» أَيْ لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك عِنْدَ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ وَلَا تَأْخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِكِ عِنْدَ التَّفَاسُخِ فَخَيَّرَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ ذَلِكَ أَوْ احْتَمَلَهُ لَا تَبْقَى حُجَّةٌ لَهُ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ كَانَ الْقِصَاصُ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ تَكُنْ الدِّيَةُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: ١٧٨] إلَى قَوْلِهِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: ١٧٨] وَالْعَفْوُ فِي أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ مِمَّا كَانَ كُتِبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. فَأَخْبَرَ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمْ تَكُنْ فِيهِمْ دِيَةٌ أَيْ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ أَخْذُهُ عِوَضًا عَنْ الدَّمِ أَوْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى يَسْفِكُوا الدِّمَاءَ فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَنَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: ١٧٨] الْآيَةَ وَنَبَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ بَلْ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ الَّتِي أُبِيحَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَجَعَلَ لَهُمْ أَخْذَهَا إذَا أُعْطُوهَا» وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ عَمَّتَهُ الرُّبَيِّعُ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ اخْتَصَمُوا إلَيْهِ كِتَابُ اللَّهُ الْقِصَاصُ» وَلَمْ يُخَيِّرْ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ وَاجِبًا بِهِ لَخَيَّرَ إذْ مَنْ وَجَبَ لَهُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ عَلَى الْخِيَارِ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِأَحَدِهِمَا مُعَيَّنًا.

وَإِنَّمَا يُحْكَمُ لَهُ بِأَنْ يَخْتَارَ أَيُّهُمَا شَاءَ وَاَلَّذِي يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ قَبْلَ اخْتِيَارِهِ الْقِصَاصَ صَحَّ عَفْوُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْوَاجِبُ بِالْقَتْلِ لَمَا صَحَّ عَفْوُهُ قَبْلَ تَعَيُّنِهِ بِاخْتِيَارِهِ إذْ الْعَفْوُ عَنْ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ بَاطِلٌ فَإِذَا كَانَ الْقِصَاصُ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ لَا يَنْفَرِدُ الْوَلِيُّ بِالْعُدُولِ عَنْهُ إلَى الْمَالِ بَدَلًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَلَا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَرَكَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ بِمَالٍ آخَرَ غَيْرِ الدِّيَةِ كَالدَّارِ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ لَا يُجْبَرُ الْقَاتِلُ عَلَى الدَّفْعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إحْيَاءُ نَفْسِهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُضْطَرَّ الَّذِي ذَكَرَهُ يُجْبَرُ عَلَى الشِّرَاءِ بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَإِنَّمَا نَقُولُ يَأْثَمُ إذَا تَرَكَ الشِّرَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَمَاتَ وَكَذَا نَقُولُ هُنَا أَيْضًا يَأْثَمُ إذَا لَمْ تَخْلُصْ نَفْسُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ وَالْآدَمِيُّ قَدْ يَضْمَنُ بِالْمَالِ كَمَا فِي الْخَطَأِ قُلْنَا وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي الْخَطَأِ ضَرُورَةُ صَوْنِ الدَّمِ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِثْلٌ لَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْعُقُوبَةُ، وَهُوَ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ صِيرَ إلَيْهِ لِصَوْنِ الدَّمِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَخَاطَأَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَأَدَّى إلَى الْتَفَّانِي؛ وَلِأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ فَلَا تَسْقُطُ حُرْمَتُهَا بِعُذْرِ التَّخَاطُؤِ كَمَا فِي الْمَالِ فَيَجِبُ الْمَالُ صِيَانَةً لَهَا عَنْ الْإِهْدَارِ وَلَا يُقَالُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمَالَ وَلَا الْعُدُولَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْجَانِي أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ فَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ الشَّلَّاءَ وَكَذَا لَوْ عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ بَطَلَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِي الْقِصَاصِ.

وَوَجَبَ لَهُمْ الدِّيَةُ وَلَوْلَا أَنَّهُ وَجَبَ بِالْجِنَايَةِ لَمَا وَجَبَ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِمْ كَامِلًا وَكَلَامُنَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَلْزَمُنَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لَا الْكَفَّارَةُ) أَيْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الْعَمْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْخَطَأِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِمَحْوِ الْإِثْمِ، وَهُوَ فِي الْعَمْدِ أَكْبَرُ، فَكَانَ أَدْعَى إلَى إيجَابِهَا وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ دَائِرَةٌ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ لَا الْكَفَّارَةُ) وَلَوْ عَفَا الْوَلِيُّ عَنْ نِصْفِ الْقِصَاصِ يَسْقُطُ الْكُلُّ وَلَا يَنْقَلِبُ الْبَاقِي مَالًا. اهـ. قُنْيَةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>