للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبْيِهَا أَيْضًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِتَعَلُّقِ الْعِبَادَةِ بِالْمُبَاحِ وَالْعُقُوبَةِ بِالْمَحْظُورِ، وَقَتْلُ الْعَمْدِ كَبِيرَةٌ مَحْضٌ فَلَا تُنَاطُ بِهِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ مِثْلِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا.

وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ فِي الْإِثْمِ فَشَرْعُهُ لِدَفْعِ الْأَدْنَى لَا يَدُلُّ عَلَى دَفْعِ الْأَعْلَى؛ وَلِأَنَّ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَعِيدًا مُحْكَمًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ يَرْتَفِعُ الْإِثْمُ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ مَعَ وُجُودِ التَّشْدِيدِ فِي الْوَعِيدِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَمَنْ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ تَحَكُّمًا مِنْهُ بِلَا دَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ؛ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: ٩٣] الْآيَةَ كُلُّ مُوجِبَةٍ هُوَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ نَسْخًا وَلَا يَجُوزُ بِالرَّأْيِ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَشِبْهُهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ، الْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ وَدِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا الْقَوَدُ) أَيْ مُوجَبُ الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ الْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَقَوْلُهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ أَيْ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي الْعَمْدِ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِي الْعَمْدِ هُوَ الْمُحَدَّدُ وَغَيْرُهُ هُوَ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ مِنْ الْآلَةِ كَالْحَجَرِ وَالْعَصَا وَكُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا إذَا ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ عَظِيمٍ أَوْ بِخَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ فَهُوَ عَمْدٌ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ بِهِ غَالِبًا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَصْدَ الْفِعْلِ لَا الْقَتْلَ، فَكَانَ عَمْدًا بِاعْتِبَارِ نَفْسِ الْفِعْلِ وَخَطَأً بِاعْتِبَارِ الْقَتْلِ.

لَهُمْ أَنَّ مَعْنَى الْعَمْدِيَّةِ يَتَقَاصَرُ بِاسْتِعْمَالِ آلَةٍ لَا تَقْتُلُ غَالِبًا؛ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ التَّأْدِيبُ أَوْ إتْلَافَ الْعُضْوِ لَا الْقَتْلُ، فَكَانَ شِبْهَ عَمْدٍ وَلَا يَتَقَاصَرُ بِاسْتِعْمَالِ آلَةٍ لَا تَلْبَثُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الْقَتْلُ كَالسَّيْفِ، فَكَانَ عَمْدًا فَيَجِبُ الْقَوَدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ رَأْسَ يَهُودِيٍّ رَضَّ رَأْسَ صَبِيٍّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ وَكَذَا قَتَلَ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَتَلَتْ امْرَأَةً بِمِسْطَحٍ، وَهُوَ عَمُودُ الْفُسْطَاطِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ وَفِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» وَبِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْعَصَا الْكَبِيرَةَ وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِهَا؛ وَلِأَنَّ قَصْدَ الْقَتْلِ أَمْرٌ مُبْطَنٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْآلَةِ الْقَاتِلَةِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَهَذِهِ الْآلَةُ لَا تَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى قَصْدِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لَهُ وَلَا مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَتْلُ بِهَا عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُ وَلَا يَقَعُ الْقَتْلُ بِهَا غَالِبًا فَقُصِرَتْ الْعَمْدِيَّةُ لِذَلِكَ فَصَارَ كَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَهُوَ الْآلَةُ الْمُحَدَّدَةُ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الصَّغِيرِ مِنْهَا وَالْكَبِيرِ.

لِأَنَّ الْكُلَّ صَالِحٌ لِلْقَتْلِ بِتَخْرِيبِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَكَذَا مَا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ بَيْنَ الصَّغِيرِ مِنْهُ وَالْكَبِيرِ حَتَّى لَا يُوجِبُ الْكُلُّ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَدٍّ لِلْقَتْلِ وَلَا صَالِحٍ لَهُ لِعَدَمِ نَقْصِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا، فَكَانَ فِي قَصْدِهِ الْقَتْلَ شَكٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ قُصُورٍ وَالْقِصَاصُ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ وَمَا رَوَوْهُ مِنْ رَضِّ الْيَهُودِيِّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلِمَ أَنَّ الْيَهُودِيَّ كَانَ قَاطِعَ الطَّرِيقِ فَإِنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ بِعَصَا أَوْ بِسَوْطٍ أَوْ غَيْرِهِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُقْتَلُ بِهِ حَدًّا أَوْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ جَعَلَهُ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَقَتَلَهُ حَدًّا كَمَا يُقْتَلُ قَاطِعُ الطَّرِيقِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَرْأَةِ فَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ فَضِيلَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ

«أَنَّ امْرَأَتَيْنِ ضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ فَقَتَلَتْهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدِّيَةِ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ وَقَضَى فِيمَا فِي بَطْنِهَا بِغُرَّةٍ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ أُغَرَّمُ مَنْ لَا طَعِمَ وَلَا شَرِبَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِيِّ» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: هَذَا مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا رَوَوْهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَاَلَّذِي يَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى زَعْمِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا «قَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ كُنْت بَيْنَ بَيْتَيْ امْرَأَتَيْنِ فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَشِبْهِهِ) قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْأَصْلِ شِبْهُ الْعَمْدِ مَا تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ فِي الْعَصَا أَوْ السَّوْطِ أَوْ الْحَجَرِ أَوْ الْيَدِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصًا فَقَتَلَهُ إنَّ ذَلِكَ شِبْهُ الْعَمْدِ وَكَذَا لَوْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ فَشَجَّهُ وَكَذَا لَوْ ضَرَبَهُ بِصَخْرَةٍ أَوْ عُودٍ وَكَذَا لَوْ وَكَزَهُ أَوْ وَجَأَهُ فَمَاتَ مِنْ وَجْأَتِهِ أَيْ عَضَّهُ فَمَاتَ مِنْ عَضَّتِهِ فَذَلِكَ كُلُّهُ شِبْهُ الْعَمْدِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فِي الْإِبِلِ إذَا فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِيهَا فَأَمَّا غَيْرُ الْإِبِلِ فَلَا يُغَلَّظُ فِيهَا إلَى هُنَا لَفْظُ الْكَرْخِيِّ وَقَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ: وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لَيْسَ بِسِلَاحٍ وَلَا يَجْرِي مَجْرَى السِّلَاحِ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِآلَةٍ لَا يُقْتَلُ بِمِثْلِهَا فِي الْغَالِبِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ بِشَيْءٍ الْغَالِبُ فِيهِ الْهَلَاكُ كَمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ وَالْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ وَنَحْوِهِ فَإِذَا قَتَلَهُ بِهِ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ عَمْدٌ فَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِعَصًا صَغِيرَةٍ أَوْ بِحَجَرٍ صَغِيرٍ أَوْ بِلِيطَةٍ وَكَانَ مَا لَا يَكُونُ الْغَالِبُ فِيهِ الْهَلَاكُ كَالسَّوْطِ وَنَحْوِهِ فَهَذَا شِبْهُ الْعَمْدِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا تَابَعَ الضَّرْبَ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ عَمْدٌ إلَى هُنَا لَفْظُ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ) سَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا يَقْتَصُّ بِالسَّيْفِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يُقْتَلُ بِأَيٍّ شَيْءٍ رَآهُ الْإِمَامُ اهـ (قَوْلُهُ فَضِيلَةَ) هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخٍ بِالْفَاءِ وَاَلَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ نُضَيْلَةَ فَلْيُحَرَّرْ اهـ (قَوْلُهُ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِيِّ) كَذَا بِخَطِّ الشَّارِحِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْأَعْرَابِ فَلْيُحَرَّرْ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>