ذَهَبَ بِهَا عَقْلُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُعْرَفُ الذَّهَابُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ الْمُنْكِرُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا إذَا صَدَّقَهُ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، وَقِيلَ ذَهَابُ الْبَصَرِ يَعْرِفُهُ الِاطِّبَاءُ، فَيَكُونُ قَوْلُ رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ عَدْلَيْنِ حُجَّةً فِيهِ، وَقِيلَ يَسْتَقْبِلُ بِهِ الشَّمْسَ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ فَإِنْ دَمَعَتْ عَيْنُهُ عُلِمَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ يُلْقَى بَيْنَ يَدَيْهِ حَيَّةٌ فَإِنْ هَرَبَ مِنْهَا عُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَذْهَبْ وَإِنْ لَمْ يَهْرُبْ فَهِيَ ذَاهِبَةٌ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَهَابِ السَّمْعِ أَنْ يُغَافَلَ، ثُمَّ يُنَادَى، فَإِذَا أَجَابَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ وَإِلَّا فَهُوَ ذَاهِبٌ وَرُوِيَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَتَطَارَشَتْ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ فَاشْتَغَلَ بِالْقَضَاءِ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا فَجْأَةً غَطِّي عَوْرَتَك فَاضْطَرَبَتْ وَتَسَارَعَتْ إلَى جَمْعِ ثِيَابِهَا فَظَهَرَ كَذِبُهَا، وَكَذَا فِي اللِّحْيَةِ وَشَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةُ إذَا حُلِقَ وَلَمْ يَنْبُتْ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ وَتَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْآدَمِيِّينَ وَلِهَذَا يَنْمُو بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَلِهَذَا يَحْلِقُ الرَّأْسَ وَاللِّحْيَةَ بَعْضُهَا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الدِّيَةُ كَشَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْفَعَةٌ وَلِهَذَا يَجِبُ فِي شَعْرِ الْعَبْدِ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الرَّأْسِ إذَا حُلِقَ وَلَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَالْمَوْقُوفُ فِي هَذَا كَالْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ فَلَا يَهْتَدِي إلَيْهِ الرَّأْيُ؛ وَلِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ اللِّحْيَةَ فِي أَوَانِهَا جَمَالٌ، وَكَذَا شَعْرُ الرَّأْسِ جَمَالٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْلَعَ يَتَكَلَّفُ فِي سَتْرِهِ فَيَلْزَمُهُ كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ جَمَالٌ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَسْبِيحُهُمْ سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالْقُرُونِ وَالذَّوَائِبِ» بِخِلَافِ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَمَالُ، وَأَمَّا لِحْيَةُ الْعَبْدِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فَلَا يَلْزَمُنَا وَالْجَوَابُ عَنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعَبْدِ الِاسْتِخْدَامُ دُونَ الْجَمَالِ وَهُوَ لَا يَفُوتُ بِالْحَلْقِ بِخِلَافِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ فِي حَقِّهِ الْجَمَالُ فَيَجِبُ بِفَوَاتِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ وَفِي الشَّارِبِ حُكُومَةُ عَدْلٍ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلِّحْيَةِ فَصَارَ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِ اللِّحْيَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي لِحْيَةِ الْكَوْسَجِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى ذَقَنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةٌ، فَلَيْسَ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَهَا يَشِينُهُ وَلَا يُزَيِّنُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ جَمِيعًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ وَفِي لِحْيَتِهِ جَمَالٌ كَامِلٌ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَسَدَتْ الْمَنْبَتُ فَإِنْ نَبَتَ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِفِعْلِ الْجَانِي أَثَرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبَةِ الَّتِي لَا يَبْقَى أَثَرُهَا فِي الْبَدَنِ وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ لِارْتِكَابِهِ الْمُحَرَّمَ، فَإِذَا نَبَتَ أَبْيَضَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُزَادُ بِبَيَاضِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَشِينُهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَتَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ بِاعْتِبَارِهِ وَفِي الْعَبْدِ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَقَصُ بِهِ قِيمَتُهُ وَيَسْتَوِي الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ فَلَا يَثْبُتُ قِيَاسًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً فَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحَاتِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَلَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ السِّرَايَةُ بِخِلَافِ النَّفْسِ وَالْجِرَاحَاتِ وَيُؤَجَّلُ فِيهِ سَنَةً فَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ فِيهَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ وَلَمْ يَنْبُتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ مُزْدَوَجًا مِنْ الْأَعْضَاءِ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ فَفِي قَطْعِهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ وَفِي قَطْعِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ»؛ وَلِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ اثْنَتَيْنِ مِنْهَا تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ تَفْوِيتَ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ فَتَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ وَفِي تَفْوِيتِ إحْدَاهُمَا تَفْوِيتُ نِصْفِ الْمَنْفَعَةِ فَيَجِبُ النِّصْفُ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ الْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالشَّفَتَيْنِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْإِبْصَارِ وَالْبَطْشِ وَإِمْسَاكِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَمَنْفَعَةُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ وَفِي تَفْوِيتِ الرِّجْلَيْنِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ وَفِي الْأُذُنَيْنِ تَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، وَقَدْ «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُذُنَيْنِ بِالدِّيَةِ» وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْإِمْنَاءِ وَالنَّسْلِ وَفِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ تَفْوِيتُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَهْرُبْ فَهِيَ ذَاهِبَةٌ)، وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا ذَكَرْنَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ وَالْقَوْلُ لِلْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْبَتَاتِ؛ لِأَنَّهُ هَذَا يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ إذْهَابُ بَصَرِ غَيْرِهِ. اهـ. مِعْرَاجٌ (قَوْلُهُ: قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَسْبِيحُهُمْ سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى») قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ اللِّحْيَةُ الشَّعْرُ النَّازِلُ عَلَى الذَّقَنِ وَالْجَمْعُ لِحَى مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدْرٍ وَتُضَمُّ اللَّامُ أَيْضًا مِثْلُ حِلْيَةٍ وَحُلَى اهـ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute