وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَإِنْ تَكَرَّرَتْ الْجِنَايَةُ وَفِي الْقِنِّ إذَا جَنَى بَعْدَ الْفِدَاءِ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ كَالْجِنَايَةِ الْأُولَى، وَكَذَا كُلَّمَا جَنَى بَعْدَ الْفِدَاءِ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُخْتَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (جَنَى عَبْدُهُ خَطَأً دَفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ فَيَمْلِكُهُ أَوْ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا) أَيْ إذَا جَنَى الْعَبْدُ خَطَأً فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، فَإِذَا دَفَعَهُ مَلَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا، وَقَوْلُهُ خَطَأً يُحْتَرَزُ بِهِ مِنْ الْعَمْدِ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ إنَّمَا يُفِيدُ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ عَمْدًا تُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَلَى الْأَطْرَافِ لَا يُفِيدُ التَّقْيِيدَ بِهِ إذْ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهَا بَيْنَ الْعَبِيدِ وَلَا بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جِنَايَةُ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي إتْبَاعِ الْجَانِي عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا لَا يَتْبَعُ لَا فِي حَالَةِ الرِّقِّ وَلَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ مَذْهَبِهِ لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي مُوجِبِ الْجِنَايَةِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَدِّي. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤] إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ وَلَا عَاقِلَةَ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا فِي الذِّمِّيِّ وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَيُبَاعُ فِيهِ كَمَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ نَفْسُ الْجَانِي إذَا أَمْكَنَ إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ عُقُوبَةً، وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ جَبْرًا وَالْحُرُّ مَنْ أُهِّلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ نَفْسَهُ عُقُوبَةً لَا بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ وَالْعَبْدُ مَنْ أُهِّلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ نَفْسَهُ بِالطَّرِيقَيْنِ فَتَصِيرُ نَفْسُهُ مُسْتَحَقَّةً لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ صِيَانَةً عَنْ الْهَدَرِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ، فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، بَلْ مَقْصُودُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يَحْصُلُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ إتْلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ نَفْسَ الْجَانِي أَبَدًا؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُوجِبِ الْجِنَايَةِ خَطَأً أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْ الْجَانِي لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا وَلِكَوْنِ الْخَطَأِ مَرْفُوعًا شَرْعًا وَيَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ تَخْفِيفًا عَنْ الْمُخْطِئِ وَتَوَقِّيًا عَنْ الْإِجْحَافِ بِهِ إلَّا أَنَّ عَاقِلَةَ الْعَبْدِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ وَبِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ فَيَجِبُ ضَمَانُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَنَاصَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَا عَاقِلَةَ لَهُمْ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ وَبِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَفِي إثْبَاتِ الْخِيَرَةِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فِي حَقِّهِ كَيْ لَا يُسْتَأْصَلَ فَيُخَيَّرَ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ مُفِيدٌ وَالْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الدَّفْعُ فِي الصَّحِيحِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ الْجَانِي قَبْلَ الِاخْتِيَارِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ وَلَهُ النَّقْلُ إلَى الْقِيمَةِ فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْجَانِي الْحُرِّ حَيْثُ لَا يَبْطُلُ الْمُوجِبُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوَاجِبُ اسْتِيفَاءً فَصَارَ كَالْعَبْدِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَإِذَا اخْتَارَ الدَّفْعَ يَلْزَمُهُ حَالًّا؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ وَلَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِي الْأَعْيَانِ، وَكَذَا إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَالًّا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْعَيْنِ وَهُوَ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُتْلِفُ وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ الْمَوْلَى وَفَعَلَهُ فَلَا شَيْءَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ غَيْرُهُ، أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَإِذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّقَبَةِ سَقَطَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ، وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْأَرْشُ، فَإِذَا أَوْفَاهُ حَقَّهُ سَلَّمَ الْعَبْدَ لَهُ، وَكَذَا إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يَفْعَلْ أَوْ فَعَلَ وَلَمْ يَخْتَرْهُ قَوْلًا سَقَطَ حَقُّ الْوَلِيِّ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْيِينُ الْمَحَلِّ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَالتَّعْيِينُ يَحْصُلُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا تَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْفِعْلُ وَالْمَحَلُّ تَابِعٌ ضَرُورَةَ وُجُودِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى قَادِرًا عَلَى الْأَرْشِ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ أَصْلَ حَقِّهِمْ فَبَطَلَ حَقُّهُمْ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّعْيِينِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْأَوْلِيَاءِ، وَقَالَا لَا يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ الْفِدَاءَ إذَا كَانَ مُفْلِسًا إلَّا بِرِضَا الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ حَقًّا لِلْأَوْلِيَاءِ حَتَّى يَضْمَنَهُ الْمَوْلَى بِالْإِتْلَافِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ إلَّا بِرِضَاهُمْ أَوْ بِوُصُولِ الْبَدَلِ إلَيْهِمْ وَهُوَ الدِّيَةُ وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي إتْبَاعِ الْجَانِي) أَيْ بَعْدَ الْعِتْقِ. اهـ. هِدَايَةٌ.
(قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْوَاجِبَ) أَيْ الْأَصْلِيَّ اهـ. (قَوْلُهُ: وَلَهُ) أَيْ الْمَالِكِ اهـ. (قَوْلُهُ: إلَى الْقِيمَةِ) وَالْأَدَاءُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ اهـ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا إذَا اخْتَارَ) أَيْ الْمَوْلَى اهـ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute