للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهَا دُونَ الْأُضْحِيَّةِ.

وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ الْأَقْوَى حَتَّى تُقَدَّمَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى وَأَكْثَرُ تَغْلِيظًا مِنْهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي التَّحْرِيرِ عَنْهَا دُونَهُمَا ثُمَّ تُقَدَّمُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَجَبَتْ بِإِيجَابِ حُرْمَةٍ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ أَغْلَظَ وَأَقْوَى دُونَهَا وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ قُدِّمَ مِنْهُ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي لِمَا بَيَّنَّا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَصَايَا إذَا اجْتَمَعَتْ لَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ إلَّا الْعِتْقَ وَالْمُحَابَاةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيمِ وَلَا بِالتَّأْخِيرِ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى لِجَمَاعَةٍ عَلَى التَّعَاقُبِ يَسْتَوُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ إذَا اتَّحَدَ وَلَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالْوَصَايَا كُلِّهَا يُقَدَّمُ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُوصِيَ يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ عَادَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ قَضَاءً مِنْ صَلَاةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ صَوْمٍ لَا يَشْتَغِلُ بِالنَّفْلِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَيَتْرُكُ الْقَضَاءَ.

عَادَةً، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ نُسِبَ إلَى الْخِفَّةِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ أَوْصَى لِآدَمِيٍّ مَعَ الْوَصَايَا بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ الْآدَمِيُّ مُعَيَّنًا قُسِّمَ الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا مَا كَانَ لِلَّهِ وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ فَمَا أَصَابَ الْقُرْبُ صُرِفَ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَيُقَسَّمُ عَلَى عَدَدِ الْقُرْبِ وَلَا يُجْعَلُ الْجَمِيعُ كَوَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِجَمِيعِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي نَفْسِهَا مَقْصُودَةٌ فَتَنْفَرِدُ كَمَا تَنْفَرِدُ وَصَايَا الْآدَمِيِّينَ فَتَكُونُ كُلُّ جِهَةٍ مِنْهَا مُسْتَحَقَّةً بِانْفِرَادِهَا ثُمَّ تُجْمَعُ فَيُقَدَّمُ فِيهَا الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَ الْآدَمِيُّ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِأَنْ أَوْصَى بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَلَا يُقَسَّمُ بَلْ يُقَدَّمُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يَبْقَى حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُسْتَحَقٌّ مُعَيَّنٌ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَلَدِهِ يَحُجُّ رَاكِبًا) أَيْ إذَا أَوْصَى بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَلَدِهِ يَحُجُّ عَنْهُ رَاكِبًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مِنْ بَلَدِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ كَمَا وَجَبَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَدَاءِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَزِمَهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِلَّا فَمِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ) أَيْ إنْ لَمْ يَبْلُغْ الثُّلُثُ النَّفَقَةَ إذَا أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَحُجَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِالْحَجِّ عَلَى صِفَةٍ، وَقَدْ عُدِمَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ فِيهِ وَلَكِنْ جَازَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا أَمْكَنَ وَلَا يُمْكِنُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيُؤْتَى بِهَا عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ، وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا فِيمَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُشْتَرَى عَبْدٌ بِمَالٍ قَدَّرَهُ فَضَاعَ بَعْضُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ حَاجًّا فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَأَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ) وَإِنْ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ بَلَدِهِ إلَى مَكَّةَ ضَمِنُوا النَّفَقَةَ وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْأَوَّلِ لَمْ يُحَصِّلُوا مَقْصُودَهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَالْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَفِي الثَّانِي حَصَّلُوا مَقْصُودَهُ وَزِيَادَةً، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ بِنِيَّةِ الْحَجِّ وَقَعَ قُرْبَةً وَسَقَطَ فَرْضُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بِقَدْرِهِ، وَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: ١٠٠] الْآيَةَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ سَفَرُهُ بِمَوْتِهِ بَلْ يُكْتَبُ لَهُ حَجٌّ مَبْرُورٌ فَيَبْدَأُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى مَا قَرَرْنَاهُ وَعَمَلُهُ قَدْ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ وَالْمُرَاد بِالْمَتْلُوِّ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ لَهُ وَطَنٌ. وَأَمَّا مَنْ لَا وَطَنَ لَهُ فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَجَّ بِنَفْسِهِ إنَّمَا كَانَ يَتَجَهَّزُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَكَذَا إذَا حَجَّ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ حَيْثُ حَلَّ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ مِثْلُهُ) أَيْ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ فَحَجَّ عَنْهُ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَاجِّ عَنْ نَفْسِهِ إذَا مَاتَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى يُحَجَّ عَنْهُ ثَانِيًا مِنْ وَطَنِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا مِنْ حَيْثُ مَاتَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَلَا يَجْعَلُ الْجَمِيعَ كَوَصِيَّةٍ وَاحِدَةٍ) أَيْ بِأَنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي فِي الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَلِزَيْدٍ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ غَيْرُ الْأُخْرَى وَلَا يُقَدَّمُ الْفَرْضُ عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَيْهِ ثُمَّ إنَّمَا يُصْرَفُ الثُّلُثُ إلَى الْحَجِّ الْفَرْضِ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ إذَا أَوْصَى بِهَا فَأَمَّا بِدُونِ الْوَصِيَّةِ فَلَا يُصْرَفُ الثُّلُثُ إلَيْهَا بَلْ تَسْقُطُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ وَإِذَا أَوْصَى يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ اهـ أَتْقَانِيٌّ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَإِلَّا فَمِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ) وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ لَوْ أَنَّ إنْسَانًا قَالَ أَنَا أَحُجُّ مِنْ مَنْزِله بِهَذَا الْمَالِ مَاشِيًا لَا يُعْطَى لَهُ ذَلِكَ وَيَحُجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا فَالْوَصِيَّةُ انْصَرَفَتْ إلَى الْحَجِّ الْمَعْرُوفِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.

(قَوْلُهُ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ) لَفْظَةُ مِنْ لَيْسَتْ فِي خَطِّ الشَّارِحِ. اهـ. (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ عَمَلِ إلَخْ) الْحَدِيثَ «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ» وَالْخُرُوجُ لِلْحَجِّ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ

<<  <  ج: ص:  >  >>