لِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فِي الْأُخْرَى فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ أَوْ أَشَدَّهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلتَّفْضِيلِ وَبِقَوْلِهِ شَدِيدَةً أَوْ فَاحِشَةً تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ قُلْنَا هَذِهِ الصِّيغَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ التَّفْضِيلِ وَبَيْنَ مُطْلَقِ الزِّيَادَةِ أَوْ مُطْلَقِ الْإِثْبَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: ٢٢٨]، وَقَالَ الشَّاعِرُ
إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
أَيْ عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا قَالَ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ لَا يَكُونُ بَائِنًا إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْإِيقَاعُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِلْبِدْعَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ يَكُونُ رَجْعِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا قَالَ كَالْجَبَلِ أَوْ مِثْلَ الْجَبَلِ يَكُونُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْجَبَلَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ تَشْبِيهًا لَهُ فِي تَوَحُّدِهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ كَأَلْفٍ أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثٌ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ فَيُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ ظَاهِرًا فَصَارَ كَقَوْلِهِ كَعَدَدِ أَلْفٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَالنُّجُومِ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَكَعَدَدِ النُّجُومِ ثَلَاثٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ كَأَلْفٍ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَلْفَ مَوْضُوعٌ لِلْعَدَدِ فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهِ لِلْكَثْرَةِ بِخِلَافِ النُّجُومِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي الضِّيَاءِ وَالنُّورِ
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ التُّرَابِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ قَالَ عَدَدَ التُّرَابِ يَقَعُ ثَلَاثًا عِنْدَهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ هُوَ يَقُولُ لَا عَدَدَ لِلتُّرَابِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَثَلَاثٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَثَلَاثٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا لَوْ قَالَ كَعَدَدِ ثَلَاثٍ ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى وَصَفَ الطَّلَاقَ إنْ كَانَ وَصْفًا لَا يُوصَفُ بِهِ الطَّلَاقُ يَلْغُو الْوَصْفُ وَيَقَعُ رَجْعِيًّا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا لَمْ يَقَعْ عَلَيْك أَوْ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ وَمَتَى وَصَفَهُ بِصِفَةٍ يُوصَفُ بِهَا الطَّلَاقُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ لَا يُنْبِئَ عَنْ زِيَادَةٍ كَقَوْلِهِ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَوْ أَفْضَلَهُ أَوْ أَسَنَّهُ أَوْ أَجْمَلَهُ أَوْ أَعْدَلَهُ أَوْ خَيْرَهُ أَوْ يُنْبِئَ عَنْ زِيَادَةٍ كَقَوْلِهِ أَشَدَّ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ فَالْأَوَّلُ رَجْعِيٌّ وَالثَّانِي بَائِنٌ عَلَى أُصُولِهِمْ فَأَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِشَيْءٍ يَقَعُ بَائِنًا أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ لِلزِّيَادَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ ذَكَرَ الْعِظَمَ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَرَجْعِيٌّ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ قَدْ يَكُونُ فِي التَّوْحِيدِ عَلَى التَّجْرِيدِ وَذِكْرُ الْعِظَمِ لِلزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ
وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ مِمَّا يُوصَفُ بِالْعِظَمِ عِنْدَ النَّاسِ يَقَعُ بَائِنًا وَإِلَّا فَرَجْعِيٌّ ذَكَرَ الْعِظَمَ أَوْ لَا. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ يُرْوَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَعَ أَبِي يُوسُفَ وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ سِمْسِمَةٍ أَوْ عِظَمَ سِمْسِمَةٍ أَوْ كَالْجَبَلِ أَوْ عِظَمَ الْجَبَلِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ أَوْ أَفْحَشَهُ أَوْ أَخْشَنَهُ أَوْ أَسْوَأَهُ أَوْ أَغْلَظَهُ أَوْ أَشَرَّهُ أَوْ أَطْوَلَهُ أَوْ أَكْبَرَهُ أَوْ أَعْرَضَهُ أَوْ أَعْظَمَهُ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فِي غَيْرِ الْأَمَةِ كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يُوصَفُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِاعْتِبَارِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى خَفِيفَةٍ وَغَلِيظَةٍ فَأَيَّهُمَا نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَثْبُتُ الْأَدْنَى لِلتَّيَقُّنِ بِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَفْضَلَ الطَّلَاقِ أَوْ أَكْمَلَهُ أَوْ أَعْدَلَهُ أَوْ أَحْسَنَهُ أَوْ أَجْمَلَهُ حَيْثُ تَقَعُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَيَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ لِذِكْرِ الْمَصْدَرِ، وَلَوْ قَالَ كَالثَّلْجِ كَانَ بَائِنًا لِلزِّيَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إنْ أَرَادَ بِهِ بَيَاضَهُ فَرَجْعِيٌّ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَرْدَهُ فَبَائِنٌ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ) وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفُحْشَ وَالْبِدْعَةَ وَطَلَاقَ الشَّيْطَانِ أَوْصَافٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَأْثِيرٍ وَتَأْثِيرُهُ بِأَنْ يَكُونَ قَاطِعًا لِلنِّكَاحِ فِي الْحَالِ. اهـ. (قَوْلُهُ فَكَانَ تَشْبِيهًا لَهُ فِي تَوَحُّدِهِ) وَلَنَا أَنَّ التَّشْبِيهَ بِهِ يُوجِبُ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وَذَا بِوَصْفِ الْبَيْنُونَةِ.
وَأَمَّا شِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِوَصْفِ الْبَيْنُونَةِ؛ لِأَنَّهُ بِهَا يَكُونُ مَأْمُونًا عَنْ الِانْتِقَاضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ كَأَلْفٍ فَلِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْعَدَدِ وَقَدْ يُشَبَّهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ وَأَيُّهُمَا نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَعِنْدَ عَدَمِهَا يَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا وَهُوَ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ. اهـ. رَازِيٌّ ثُمَّ قَالَ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَمْلَأُ الْبَيْتَ لِعِظَمِهِ أَوْ لِكَثْرَتِهِ فَأَيُّهُمَا نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا وَهِيَ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ فِي قَوْلِهِ طَوِيلَةً أَوْ عَرِيضَةً الْوَاقِعُ بِهِمَا رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُوصَفُ بِهِمَا فَيَلْغُو وَقُلْنَا الطُّولُ وَالْعَرْضُ عِبَارَتَانِ عَنْ الْكَمَالِ وَالْقُوَّةِ وَهُمَا فِي الْبَيْنُونَةِ، وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا بَائِنٌ وَالْبَيْنُونَةُ تَتَنَوَّعُ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ أَيَّهمَا كَانَتْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَفْضَلُ الطَّلَاقِ أَوْ أَكْمَلُهُ أَوْ أَعْدَلُهُ أَوْ أَحْسَنُهُ حَيْثُ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَيَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ لِذِكْرِ الْمَصْدَرِ. اهـ. (قَوْلُهُ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ لِلزِّيَادَةِ) أَيْ لِاقْتِضَاءِ التَّشْبِيهِ الزِّيَادَةَ. (قَوْلُهُ وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ سِمْسِمَةٍ) تَقَعُ وَاحِدَةً بَائِنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ رَجْعِيَّةٌ اهـ. (قَوْلُهُ أَوْ عِظَمَ سِمْسِمَةٍ) تَقَعُ بَائِنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ زُفَرَ رَجْعِيَّةٌ. اهـ. (قَوْلُهُ أَوْ كَالْجَبَلِ) بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَجْعِيَّةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اهـ. (قَوْلُهُ أَوْ عِظَمَ الْجَبَلِ) بَائِنَةٌ اتِّفَاقًا اهـ هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ أَمَّا لَوْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا بَائِنٌ وَالْبَيْنُونَةُ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ. اهـ. كَمَالٌ. (قَوْلُهُ، وَلَوْ قَالَ كَالثَّلْجِ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَقْصُرُ الْبَيْنُونَةَ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى ذِكْرِ الْعِظَمِ بَلْ يَقَعُ بِدُونِهِ عِنْدَ قَصْدِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَا يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يَقَعَ بَائِنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَأَعْدَلِ الطَّلَاقِ وَكَأَسَنِّهِ وَكَأَحْسَنِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute