للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ فَكَانَ تَعْلِيقًا بِأَمْرٍ مَوْجُودٍ فَيَكُونُ إيقَاعًا وَلَا يَلْزَمُ الْقُدْرَةُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُدْرَةِ هُنَا التَّقْدِيرُ وَيُقَدِّرُ شَيْئًا وَقَدْ لَا يُقَدِّرُهُ حَتَّى لَوْ أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ قُدْرَتِهِ تَعَالَى يَقَعُ فِي الْحَالِ

وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى الْعَبْدِ كَانَ تَمْلِيكًا فِي الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ تَعْلِيقًا فِي غَيْرِهَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَشَرَةٌ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِلتَّمْلِيكِ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ وَأَخَوَاتُهَا وَسِتَّةٌ لَيْسَتْ لِلتَّمْلِيكِ وَهِيَ الْأَمْرُ وَأَخَوَاتُهُ وَالْكُلُّ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْعَبْدِ وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْبَاءِ أَوْ بِاللَّامِ أَوْ بَقِيَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَأَمَّلْهُ. .

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ ثِنْتَانِ وَفِي الِاثْنَتَيْنِ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَفِي إلَّا ثَلَاثًا ثَلَاثٌ) أَيْ فِيمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ ثِنْتَانِ وَفِيمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثِنْتَيْنِ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَفِيمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا يَقَعُ ثَلَاثٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ كَدَلِيلِ الْخُصُوصِ فَإِذَا قَالَ عَلَى عَشْرَةٍ إلَّا خَمْسَةً فَهَذَا اللَّفْظُ عِبَارَةٌ عَنْ الْخَمْسَةِ عِنْدَنَا وَصَارَ اسْمًا لَهَا كَمَا صَارَ قَوْلُهُ مُسْلِمُونَ اسْمًا لِلْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْمُفْرَدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جُزْأَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ مُسْلِمٌ اسْمًا لِلْمُفْرَدِ قَبْلَ التَّرْكِيبِ فَزَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالزِّيَادَةِ

فَكَذَا هَذَا وَعِنْدَهُ دَخَلَتْ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا ثُمَّ خَرَجَتْ الْخَمْسَةُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيَّ، وَلِهَذَا جَازَ إظْهَارُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: ٣٠] {إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: ٣١]، وَكَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إخْرَاجٌ لِلْبَعْضِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يُخْرِجَ بَعْضَ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ لَاسْتَوَى فِيهِ الْكُلُّ وَالْبَعْضُ كَالنَّسْخِ وَلَكَانَ مُسْتَقِلًّا أَيْضًا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ فِيهَا يُؤَدِّي إلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا كَذِبٌ أَوْ يُشْبِهُ الْكَذِبَ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ} [العنكبوت: ١٤] عِبَارَةٌ عَنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ لَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ

وَكَذَا قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: ٢٦] {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: ٢٧] يَكُونُ تَبَرَّأَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَا أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّعَارُضَ تَنَاقُضٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّادِقِ وَقَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَدَخَلَ فَمَنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ فَصَارَ كَالْمُخْرَجِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَالَ عَلَى أَلْفٍ إلَّا مِائَةً أَوْ خَمْسِينَ يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ لِلشَّكِّ فِي الدُّخُولِ وَعِنْدَهُ يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ عِنْدَهُ بِيَقِينٍ وَالشَّكُّ فِي الْمُخْرَجِ فَيَخْرُجُ الْأَقَلُّ بِيَقِينٍ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا بِخِلَافِ الْعَطْفِ حَيْثُ يَصِحُّ

وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُغَيِّرٍ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نَقُولُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْجَمِيعِ سَوَاءٌ اسْتَثْنَى الْأَقَلَّ أَوْ الْأَكْثَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ إلَّا الْفَرَّاءَ مِنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ هُوَ الصَّحِيحُ ثُمَّ قَالَ وَمِمَّنْ وَافَقَهُمْ ابْنُ خَرُوفٍ وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ شَيْءٌ يَصِيرُ مُتَكَلِّمًا بِهِ وَصَارَ فَاللَّفْظُ إلَيْهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَنْ اشْتَرَطَ الْأَقَلَّ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ جَائِزٌ

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ لَا يَجُوزُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: ٤٢] فَالْغَاوُونَ أَكْثَرُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: ١٣٠] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ سَفِهَ الْمُخَالِفُونَ لِمِلَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ اتَّبَعَهَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: ٩٩] إذْ هُمْ أَكْثَرُ مِنْ الرَّابِحِينَ، وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمَّا صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْبَاقِي يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ يَصِيرُ مُتَكَلِّمًا بِهِ بَعْدَ الثَّنِيَّا وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً).

(فَرْعٌ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ وَهُوَ شَرْحُ الْكَافِي وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَيْ فِي الْكَافِي إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ لَمْ يَقَعْ ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ كَمَا لَا تَتَجَزَّأُ فِي الْإِيقَاعِ لَا تَتَجَزَّأُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إلَّا وَاحِدَةً وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ فِي الْإِيقَاعِ إنَّمَا لَا يَتَجَزَّأُ لِمَعْنَى الْمُوقِعِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَيَتَجَزَّأُ فِيهِ وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ صَارَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَنِصْفٍ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ الْكَمَالُ فَرْعٌ، إخْرَاجُ بَعْضِ التَّطْلِيقَةِ لَغْوٌ بِخِلَافِ إيقَاعِهِ فَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَ الثَّلَاثُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ثِنْتَانِ (قَوْلُهُ بَعْدَ الثَّنِيَّا) أَيْ وَالثَّنِيَّا اسْمٌ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَمَعْنَاهُ إنْ صَدَرَ الْكَلَامُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: ١٤] مَعْنَاهُ لَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ

وَكَذَا إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ، وَقَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا تِسْعًا يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَكَأَنَّهُ بِمَا حَصَلَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ الدِّرْهَمُ الْوَاحِدُ فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا تَقَعُ الطَّلْقَتَانِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الطَّلْقَتَيْنِ هُمَا الْحَاصِلَتَانِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِمَا ابْتِدَاءً، وَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَتَقَعُ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ هِيَ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْوَاحِدَةِ ابْتِدَاءً. اهـ. أَتْقَانِيٌّ

<<  <  ج: ص:  >  >>