أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ إلَّا بِحِنْثٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَحْلِفَ بِهِ فِي الدَّعَاوَى فَصَارَ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا بِلَا كَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ فَصَارَ كَالْحَلِفِ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّهُ أَهْلٌ لِلْيَمِينِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ الظِّهَارُ حَيْثُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنَّا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة: ٢] وَهُوَ لَيْسَ مِنَّا، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الظِّهَارِ تَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ وَفِي الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً فَلَوْ شُرِعَ الظِّهَارُ فِي حَقِّهِ لَكَانَتْ الْحُرْمَةُ مُطْلَقَةً لَا مُغَيَّاةً بِهَا وَهُوَ خِلَافُ الْمَنْصُوصِ فَيَكُونُ تَغْيِيرًا لِلْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْحِنْثِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ ظِهَارُهُ أَيْضًا وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّا. وَقَوْلُهُ لَا أَقْرَبُك، الْقُرْبَانُ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ وَمِنْ الْكِنَايَةِ الْوَطْءُ وَالْمُبَاضَعَةُ وَالِافْتِضَاضُ فِي الْبِكْرِ وَالِاغْتِسَالُ مِنْهَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ وَالْإِتْيَانُ وَالْإِصَابَةُ وَالْغَشَيَانُ وَالْمُضَاجَعَةُ وَالدُّنُوُّ وَالْمَسُّ كِنَايَاتٌ وَكَذَا قَوْلُهُ لَا تَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَك وِسَادَةٌ أَوْ لَا يَجْتَمِعَانِ أَوْ لَا أَبِيتُ مَعَك فِي فِرَاشٍ أَوْ لَا أَقْرَبُ فِرَاشَك لَا يَكُونُ بِهَا مُولِيًا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَفِي الْبَدَائِعِ الصَّرِيحُ الْمُجَامَعَةُ وَالنَّيْكُ. .
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ وَطِئَ فِي الْمُدَّةِ كَفَّرَ) أَيْ إنْ وَطِئَهَا الْمُولِي فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَكَفَّرَ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْحِنْثِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ٢٢٦] قُلْنَا الْمُرَادُ بِهِ إسْقَاطُ عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ بِسَبَبِ قَصْدِهِ الْإِضْرَارَ بِهَا لَا إسْقَاطَ الْكَفَّارَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْأَيْمَانِ الْمُنْعَقِدَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَإِنْ وُعِدَ الْمَغْفِرَةَ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ) لِأَنَّ الْأَيْمَانَ تَنْحَلُّ بِالْحِنْثِ فَلَا تَبْقَى بَعْدَ انْحِلَالِهَا وَلَا إيلَاءَ بِدُونِهَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِلَّا بَانَتْ) أَيْ إنْ لَمْ يَطَأْهَا فِي الْمُدَّةِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَبِينُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَكِنْ يُوقَفُ عَلَى أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا أَوْ يُفَارِقَهَا فَإِنْ فَعَلَ وَإِلَّا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَصَارَ الْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْفَيْءَ عِنْدَهُ يَكُونُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَعِنْدَنَا فِي الْمُدَّةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَطْلِيقِ الزَّوْجِ أَوْ تَفْرِيقِ الْقَاضِي عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا تَقَعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ) أَيْ بِشَيْءٍ لَا يَلْزَمُ قُرْبَةٌ. اهـ. (قَوْلُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ) أَيْ كَحَلِفِ الذِّمِّيِّ بِالْحَجِّ اهـ وَكَقَوْلِهِ إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا اتِّفَاقًا اهـ. (قَوْلُهُ فَصَارَ كَالْحَلِفِ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ) كَإِنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ حَجٌّ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ صَوْمٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُولِيًا اتِّفَاقًا اهـ. (قَوْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ إنَّهُ أَهْلٌ لِلْيَمِينِ) حَتَّى يَحْلِفَ بِهِ فِي الدَّعَاوَى وَإِذَا صَحَّ يَمِينُهُ يَحْنَثُ فِيهِ بِالْقُرْبَانِ. اهـ. كَافِي. (قَوْلُهُ وَمِنْ الْكِنَايَةِ الْوَطْءُ وَالْمُبَاضَعَةُ) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَلْفَاظُهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحُ نَحْوُ لَا أَقْرَبُك لَا أُجَامِعُك لَا أَطَؤُك لَا أُبَاضِعُكِ لَا أَغْتَسِلُ مِنْك مِنْ جَنَابَةٍ فَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ الْجِمَاعَ لَمْ يُدَيَّنَ فِي الْقَضَاءِ وَالْكِنَايَةُ نَحْوُ لَا أَمَسُّك لَا آتِيك لَا أَغْشَاك لَا أَلْمِسُك لَأَغِيظَنَّكِ لَا أَشُوفَكِ لَا أَدْخُلُ عَلَيْك لَا أَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَك لَا أُضَاجِعُك لَا أَقْرَبُ فِرَاشَك فَلَا تَكُونُ إيلَاءً بِلَا نِيَّةٍ وَيُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ وَقِيلَ الصَّرِيحُ لَفْظَانِ لَا أُجَامِعُك لَا أَنِيكُك وَهَذِهِ كِنَايَاتٌ تَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ وَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الصَّرَاحَةَ مَنُوطَةٌ بِتَبَادُرِ الْمَعْنَى لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا لَا بِالْحَقِيقَةِ وَإِلَّا لَأَوْجَبَ كَوْنَ الصَّرِيحِ لَفْظًا وَاحِدًا وَهُوَ ثَانِي مَا ذَكَرَ اهـ. (قَوْلُهُ وَالِاغْتِسَالُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْمَرْأَةِ الْمُولَى مِنْهَا اهـ. (قَوْلُهُ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ اهـ. (قَوْلُهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ) أَيْ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ. اهـ. كَافِي. .
(قَوْلُهُ وَكَفَّرَ) أَيْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: ٨٩] جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مُوجَبَ الْحَلِفِ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْحِنْثِ وَالْإِيلَاءُ حَلِفٌ، وَقَدْ حَنِثَ فِيهِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا تَجِبُ) قَالَ قَتَادَةُ الْحَسَنُ خَالَفَ النَّاسَ. اهـ. فَتْحٌ. (قَوْلُهُ وَإِنْ وُعِدَ الْمَغْفِرَةَ) الْمَغْفِرَةُ تَقْتَضِي نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ لَا غَيْرُ اهـ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ) أَيْ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ آخَرُ. اهـ. فَتْحٌ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَإِلَّا بَانَتْ إلَخْ) فَإِنْ قُلْت سَلَّمْنَا أَنَّ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَائِنٌ وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْبَائِنِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا كَمَا رُوِيَ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا وَقَعَ بَائِنًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ ظَلَمَهَا حَيْثُ مَنَعَهَا حَقَّهَا الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَطْءُ فِي الْمُدَّةِ فَجَازَاهُ الشَّرْعُ بِالطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ تَخْلِيصًا عَنْ ضَرَرِ التَّعْلِيقِ وَلَا يَحْصُلُ التَّخَلُّصُ بِالرَّجْعِيِّ فَوَقَعَ بَائِنًا، وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا بَائِنًا عَلَى الْفَوْرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يَقْرَبُهَا الشَّخْصُ بَعْدَ الْإِيلَاءِ أَبَدًا فَجَعَلَهُ الشَّرْعُ مُؤَجَّلًا بِقَوْلِهِ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَحَصَلَتْ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِالْإِيلَاءِ بَائِنٌ لَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَبِينُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَبِينُ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ قَالَ الْكَمَالُ لَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ تَبِينُ بَلْ قَالَ يَقَعُ رَجْعِيًّا سَوَاءٌ طَلَّقَ الزَّوْجُ بِنَفْسِهِ أَوْ الْحَاكِمُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ اهـ. (قَوْلُهُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: ٢٢٦] إلَخْ) قَالَ الرَّازِيّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ} [البقرة: ٢٢٦] الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَاقْتَضَى جَوَازَ الْفَيْءِ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: ٢٢٧] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بِتَطْلِيقِ الزَّوْجِ أَوْ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي اهـ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute