للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَحِيمٌ} [البقرة: ٢٢٦] فَإِنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَاقْتَضَى جَوَازَ الْفَيْءِ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَجَوَازَ التَّفْرِيقِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: ٢٢٧] فَلَوْ وَقَعَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ الْعَزْمُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ النَّصَّ يُشِيرُ إلَى أَنَّ عَزْمَهُ الطَّلَاقَ مِمَّا هُوَ مَسْمُوعٌ وَذَلِكَ بِتَطْلِيقَةٍ أَوْ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي، وَلِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا فَيَكُونُ بِتَطْلِيقَةٍ أَوْ تَفْرِيقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَالتَّفْرِيقِ بِالْجَبِّ أَوْ الْعُنَّةِ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ مِنْ غَيْرِ تَطْلِيقِ أَحَدٍ فَأَشْبَهَ الْعُنَّةَ حَيْثُ لَا يَقَعُ بِمُضِيِّ أَجَلِهِ

وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ} [البقرة: ٢٢٦] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْفَيْءُ فِي الْمُدَّةِ فَيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُمَا لَا تَنْزِلُ عَنْ رِوَايَتِهِمَا، وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا لِلْحَالِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ الشَّرْعُ مُؤَجَّلًا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إذَا مَضَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةُ تَرَبُّصٍ بَعْدَمَا أَظْهَرَ الزَّوْجُ الرَّغْبَةَ عَنْهَا فَتَبِينُ بِمُضِيِّهَا كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَلَا تَمَسُّكَ لَهُ بِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ فَإِنَّ الْفَاءَ فِيهَا لِتَعْقِيبِ الْفَيْءِ عَلَى الْإِيلَاءِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقِرَاءَةِ وَبِدَلِيلِ جَوَازِ الْفَيْءِ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَشْهُرِ

وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمَا جَازَ وَعَزْمُهُ الطَّلَاقَ تَرْكُهُ لَهَا إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَيْ وَإِنْ عَزَمُوا أَنْ يُصَيِّرُوا الْإِيلَاءَ طَلَاقًا فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بِالْإِيلَاءِ عَلِيمٌ بِالْعَزِيمَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ إيقَاعٍ بَلْ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ وَجَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْعِنِّينِ شَيْءٌ يُجْعَلُ طَلَاقًا فَافْتَرَقَا، وَلِأَنَّ الْعِنِّينَ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَنَاسَبَ التَّخْفِيفَ، وَلِهَذَا كَانَ أَجَلُهُ أَكْثَرَ وَالْمُولِي ظَالِمٌ بِمَنْعِ حَقِّهَا فَيُجَازَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَإِنْ قِيلَ إذَا وَطِئَهَا مَرَّةً لَمْ يَبْقَ لَهَا حَقٌّ فِي الْوَطْءِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ تَأَكُّدِ الْمَهْرِ وَالْإِحْصَانِ وَغَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا بِالْعُنَّةِ بَعْدَمَا وَطِئَهَا مَرَّةً فَكَيْفَ يَكُونُ ظَالِمًا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْوَطْءِ قُلْنَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ حُكْمًا فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ دِيَانَةً فَيَكُونُ ظَالِمًا بِالِامْتِنَاعِ أَوْ نَقُولُ ظَلَمَهَا بِجَعْلِ الْوَطْءِ حَرَامًا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْيَمِينُ فَيَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَجِبُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ جَزَاءً لِظُلْمِهِ بِخِلَافِ الْعِنِّينِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِ صُنْعٌ يَصِيرُ بِهِ مَانِعًا حَقَّهَا فَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا. .

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَسَقَطَ الْيَمِينُ لَوْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتٍ فَلَا تَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبَقِيَتْ لَوْ عَلَى الْأَبَدِ) أَيْ بَقِيَتْ الْيَمِينُ لَوْ كَانَ حَلَفَ عَلَى الْأَبَدِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَبَدًا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَلَمْ يَقُلْ أَبَدًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَبَدِ كَمَا فِي الْيَمِينِ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَلَا تَبْطُلُ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِعَدَمِ مَا يُبْطِلُهَا مِنْ حِنْثٍ أَوْ مُضِيِّ وَقْتِهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا لِعَدَمِ مَنْعِ حَقِّهَا ذَكَرَهُ فِي الْبَدَائِعِ وَالتُّحْفَةِ وَشَرْحِ الْإِسْبِيجَابِيِّ وَالْجَامِعِ

وَذَكَرَ الْمَرْغِينَانِيُّ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ أَنَّهَا لَوْ بَانَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِالْإِيلَاءِ ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ أُخْرَى فَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ أُخْرَى وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِيهِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ جَزَاءُ الظُّلْمِ وَلَيْسَ لِلْمُبَانَةِ حَقٌّ فَلَا يَكُونُ ظَالِمًا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَبَانَهَا بِتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ حَيْثُ تَقَعُ أُخْرَى بِالْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالْمُعَلَّقُ لَا يَبْطُلُ بِتَنْجِيزِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ وَبِهِ يَبْطُلُ وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ. .

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ نَكَحَهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا وَمَضَتْ الْمُدَّتَانِ بِلَا فَيْءٍ بَانَتْ بِأُخْرَيَيْنِ) يَعْنِي لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مَا بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ التَّزَوُّجِ الثَّانِي بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثَالِثًا وَمَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَهَا ثَبَتَ حَقُّهَا فِي الْجِمَاعِ وَبِامْتِنَاعِهِ عَنْهُ يَصِيرُ ظَالِمًا فَيُجَازَى بِإِزَالَةِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَذَكَرَ فِي الْكَافِي وَالْهِدَايَةِ أَنَّ مُدَّةَ هَذَا الْإِيلَاءِ تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ، وَقَالَ فِي الْغَايَةِ إنْ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الثَّانِيَةِ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا، وَمِثْلُهُ فِي النِّهَايَةِ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الطَّلَاقَ يَتَكَرَّرُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَانَهَا بِتَنْجِيزِ طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا حَيْثُ يَكُونُ مُولِيًا وَتُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْإِيلَاءِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ مُنْعَقِدًا قَبْلُ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ، وَلِهَذَا لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ إلَخْ) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْأَقْطَعُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: ٢٢٧] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا فَيْءَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَهُوَ حُجَّةٌ فِيهَا وَإِنْ كَانَ بَيَّنَ هَذَا الِاسْمَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَأَسْمَاءُ الشَّرْعِ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ الْأَقْطَعُ وَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَأَنَّهُ يَكُونُ بَائِنًا لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَالْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ تَكُونُ بَائِنَةً اهـ. (قَوْلُهُ وَجَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ) أَيْ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. اهـ. كَافِي. .

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَبَقِيَتْ لَوْ عَلَى الْأَبَدِ) قَالَ الْكَمَالُ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَلَيْسَ بِمُولٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِالْحَيْضِ فَلَا يُضَافُ الْمَنْعُ إلَى الْيَمِينِ اهـ. (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَبَقِيَتْ لَوْ عَلَى الْأَبَدِ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ تَقَعُ أُخْرَى عِنْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى إذَا كَانَتْ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بَعْدُ. اهـ. فَتْحٌ. .

(قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ) فَالْأَوْلَى اعْتِبَارُ الْإِطْلَاقِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ. اهـ. فَتْحٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>