للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: ٣] نَزَلَتْ فِي «خَوْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ رَآهَا وَهِيَ تُصَلِّي، وَكَانَتْ حَسْنَاءَ فَلَمَّا سَلَّمَتْ رَاوَدَهَا فَأَبَتْ فَغَضِبَ فَظَاهَرَ مِنْهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ إنَّ أَوْسًا تَزَوَّجَنِي وَأَنَا شَابَّةٌ مَرْغُوبٌ فِي وَلَمَّا خَلَا سِنِّي وَنَثَرَ بَطْنِي جَعَلَنِي كَأُمِّهِ»، وَرُوِيَ «أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ لِي مِنْهُ صِبْيَةً إنْ ضَمَمْتهمْ إلَيْهِ ضَاعُوا، وَإِنْ ضَمَمْتهمْ إلَيَّ جَاعُوا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا عِنْدِي فِي أَمْرِك مِنْ شَيْءٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لَهَا حُرِّمْت عَلَيْهِ فَهَتَفَتْ وَشَكَتْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُعْتِقُ رَقَبَةً فَقَالَتْ قُلْت لَا يَجِدُ قَالَ فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ قَالَ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قُلْت مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ فَقُلْت فَإِنِّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَحْسَنْت اذْهَبِي فَأَطْعِمِي عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ حَيْثُ شَبَّهَ مَنْ هِيَ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الْحِلِّ بِمَنْ هِيَ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الْحُرْمَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يُجَازِيَ بِهِ بِالْحُرْمَةِ الْمُغَيَّاةَ بِالْكَفَّارَةِ، وَالْوَطْءُ إذَا حُرِّمَ حُرِّمَ بِدَوَاعِيهِ كَيْ لَا يَقَعَ فِيهِ كَمَا فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُمَا فَلَوْ حُرِّمَ الدَّوَاعِي لَأَفْضَى إلَى الْحَرَجِ، وَلَا يُقَالُ كَثْرَةُ الْوُجُودِ تَدْعُو إلَى شَرْعِ الزَّوَاجِرِ لِيَقِلَّ فَلَا يَدُلُّ عَلَى السُّقُوطِ لِأَنَّا نَقُولُ أَيَّامُ الطُّهْرِ وَالْفِطْرِ أَكْثَرُ فَبِوُجُودِ الْوَطْءِ فِيهِمَا تَفْتُرُ الرَّغْبَةُ عَنْهَا فَلَا تَدْعُو إلَى شَرْعِ الزَّوَاجِرِ، وَلِأَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تُفْضِي إلَى الْوَطْءِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَنْفِرُ عَنْهَا فَلَا تَكُونُ دَاعِيَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِهِ فَلَا تَحْرُمُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي لِأَنَّ التَّمَاسَّ أُرِيدَ بِهِ الْوَطْءُ، وَهُوَ مَجَازٌ فِيهِ فَلَا يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ، وَنَحْنُ نَقُولُ التَّمَاسُّ حَقِيقَةً اللَّمْسُ بِالْيَدِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْ نَقُولُ إنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَجَازَ لَفْظًا، وَيَلْحَقُ غَيْرُهُ بِهِ بِالْقِيَاسِ احْتِيَاطًا فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ، وَبِمِثْلِهِ لَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَلَوْ وَطِئَ قَبْلَهُ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فَقَطْ) أَيْ لَوْ وَطِئَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْكَفَّارَةِ الْأُولَى، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا رُوِيَ «أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ حِينَ، وَاقَعَ امْرَأَتَهُ، وَقَدْ كَانَ ظَاهَرَ مِنْهَا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي فَوَقَعْت عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ فَقَالَ مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُك اللَّهُ فَقَالَ رَأَيْت خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ قَالَ فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك اللَّهُ تَعَالَى» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، وَفِي رِوَايَةٍ «قَالَ لَهُ اسْتَغْفِرْ رَبَّك، وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ»، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَبَيَّنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَعَوْدُهُ عَزْمُهُ عَلَى وَطْئِهَا) أَيْ عَوْدُ الْمُظَاهِرِ، وَهُوَ الْعَوْدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: ٣] عَزْمُهُ عَلَى وَطْءِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُكُوتُهُ عَنْ طَلَاقِهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الظِّهَارَ لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ الْعَوْدُ إمْسَاكَهَا، وَالثَّانِي أَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي، وَفِيمَا قَالَهُ تَرْكُهُ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ سُكُوتُهُ عَنْ طَلَاقِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ النَّصِّ أَصْلًا، وَقَالَ مَالِكٌ الْعَوْدُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ، وَهَذَا يَرُدُّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَطْءِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَنْفِي جَوَازَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ، وَكَذَا الْآيَةُ تَرُدُّهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ التَّحْرِيرَ بَعْدَ الْعَوْدِ قَبْلَ التَّمَاسِّ فَلَوْ كَانَ الْعَوْدُ هُوَ الْوَطْءُ لَمَا اسْتَقَامَ، وَقَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ: الْعَوْدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالظِّهَارِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا يَحْرُمُ وَطْؤُهَا بِدُونِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ، وَاللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ لَقِيلَ يُعِيدُونَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ مِنْ الْإِعَادَةِ لَا مِنْ الْعَوْدِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ يَنْفِيهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ الظِّهَارِ هَلْ كَرَّرَ أَوْ لَا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْرَارَ لَسَأَلَهُ، وَاللَّامُ فِي قَوْله تَعَالَى لِمَا قَالُوا بِمَعْنَى إلَى، وَقِيلَ بِمَعْنَى فِي، وَقَالَ الْفَرَّاءُ بِمَعْنَى عَنْ أَيْ يَرْجِعُونَ عَمَّا قَالُوا فَيُرِيدُونَ الْوَطْءَ، وَالْعَوْدُ الرُّجُوعُ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ ابْنُ الصَّامِتِ) هُوَ أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَلَمَّا خَلَا سِنِّي وَنَثَرَ بَطْنِي) أَرَادَتْ أَنَّهَا كَانَتْ شَابَّةً تَلِدُ أَوْلَادًا عِنْدَهُ. اهـ. هَرَوِيٌّ (قَوْلُهُ فَقَالَ سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ) الْعَرَقُ بِالْعَيْنِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ سِتُّونَ صَاعًا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقِيلَ هُوَ مِكْتَلٌ يَسَعُ ثَلَاثِينَ صَاعًا قَالَ أَبُو دَاوُد وَهَذَا أَصَحُّ (قَوْلُهُ كَيْ لَا يَقَعَ فِيهِ) فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَيْ فِي الْحَرَامِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي) وَهَذَا فِي الْجَدِيدِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ اهـ عَيْنِيٌّ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْكَفَّارَةِ الْأُولَى) وَأَرَادَ بِالْكَفَّارَةِ الْأُولَى الْكَفَّارَةَ الْوَاجِبَةَ بِالظِّهَارِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَنْصُوصِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك) كَذَا فِي حَظِّ الشَّارِحِ وَفِي النُّسَخِ مَا أَمَرَ اللَّهُ (قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَبَيَّنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ هَذَا اللَّفْظُ أَيْ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا أَيَّ شَيْءٍ نَوَى أَمَّا إذَا نَوَى الظِّهَارَ فَظَاهِرٌ وَكَذَا إذَا نَوَى الطَّلَاقَ لِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسِخَ إلَى تَحْرِيمٍ مُؤَقَّتٍ بِالْكَفَّارَةِ فَتَكُونُ نِيَّةُ الطَّلَاقِ نِيَّةَ الْمَنْسُوخِ فَلَا يَصِحُّ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ تَعْيِينُ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ وَاللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الطَّلَاقِ وَكَذَا إذَا نَوَى تَحْرِيمَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ وَكَذَا إذَا قَالَ أَرَدْت بِهِ الْخَبَرَ عَنْ الْمَاضِي كَانَ كَذَّابًا فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً. اهـ. أَتْقَانِيٌّ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَطْءِ) بَيَانُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: ٣] رَتَّبَ التَّحْرِيرَ عَلَى الْعَوْدِ اهـ مِنْ خَطِّ الشَّارِحِ (قَوْلُهُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ بِمَعْنَى عَنْ إلَخْ) قَالَ الرَّازِيّ وَقِيلَ إلَى بِمَعْنَى عَنْ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى مَقُولِهِمْ وَيُرَادُ بِالْمَقُولِ النِّسَاءُ تَسْمِيَةً لِلْمَحَلِّ بِاسْمِ الْحَالِ اهـ وَقَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَمَا فِي لِمَا قَالُوا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَيُرَادُ بِالْمَصْدَرِ الْمَفْعُولُ كَضَرْبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>