أَيْ لَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ زَيْدًا أَوْ الْبَصْرَةَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَمْ يَأْتِهِ حَتَّى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ فَوْتُ الْإِتْيَانِ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الْبِرَّ مَرْجُوٌّ مَا دَامَ حَيًّا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لَيَأْتِيَنَّهُ إنْ اسْتَطَاعَ فَهُوَ عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ) لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ فِي الْعُرْفِ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: ٩٧] وَالْمُرَادُ بِهَا الِاسْتِطَاعَةُ الْحِسِّيَّةُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: ٦٠] وَيُقَالُ فُلَانٌ يَسْتَطِيعُ كَذَا وَالْمُرَادُ بِهَا سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ نَوَى الْقُدْرَةَ دِينَ) أَيْ إنْ نَوَى حَقِيقَةَ الْقُدْرَةِ الَّتِي تُقَارِنُ الْفِعْلَ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: ١٢٩] وَقَالَ تَعَالَى {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: ٩٧] إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي وَفِي رِوَايَةٍ يُصَدَّقُ قَضَاءً أَيْضًا لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ كَيْفَمَا كَانَ وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا نَوَى الْحَقِيقَةَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ خِلَافَ الظَّاهِرِ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِلَافَ الظَّاهِرِ يُصَدَّقُ قَضَاءً وَدِيَانَةً بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً قَوْلًا وَاحِدًا وَهَلْ يُصَدَّقُ قَضَاءً أَوْ لَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَعَلَى إحْدَاهُمَا يَخْرُجُ قَوْلُهُ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الْمَجَازَ حَيْثُ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً مُطْلَقًا إلَّا فِيمَا فِيهِ تَشْدِيد عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مَا عُرِفَ وَإِذَا نَوَى اسْتِطَاعَةَ الْفِعْلِ لَا يُتَصَوَّرُ حِنْثُهُ أَبَدًا لِأَنَّهَا لَمْ تَسْبِقْ الْفِعْلَ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (لَا تَخْرُجْ إلَّا بِإِذْنِي شُرِطَ لِكُلِّ خُرُوجٍ إذْنٌ بِخِلَافِ إلَّا أَنْ وَحَتَّى) أَيْ لَوْ حَلَفَ لَا تَخْرُجْ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ يُشْتَرَطُ الْإِذْنُ فِي كُلِّ خُرُوجٍ حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ مَرَّةً أُخْرَى يَحْنَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك أَوْ حَتَّى آذَنَ لَك فَإِنَّهُ بِالْإِذْنِ مَرَّةً تَنْتَهِي الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَحْنَثُ أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ إلَّا بِإِذْنِي فَلِأَنَّهُ اسْتَثْنَى خُرُوجًا بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ مُلْصَقًا بِالْإِذْنِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَكُلُّ خُرُوجٍ لَا يَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ كَانَ دَاخِلًا فِي الْيَمِينِ وَصَارَ شَرْطًا لِلْحِنْثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: ٦٤] أَيْ لَا يُوجَدُ نُزُولٌ إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت إلَّا بِمِلْحَفَةٍ أَوْ بِقِنَاعٍ وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ لَهَا كُلَّمَا أَرَدْت الْخُرُوجَ فَقَدْ أَذِنْت لَك فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ نَهَاهَا لَمْ يَعْمَلْ نَهْيُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي خَرْجَةٍ ثُمَّ نَهَاهَا عَنْ تِلْكَ الْخَرْجَةِ يَعْمَلُ نَهْيُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ الْعَامَّ بِالْخَاصِّ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ يَبْطُلُ الْيَمِينُ بِالْعَامِّ لِاسْتِحَالَةِ بَقَائِهَا مَعَ إطْلَاقِ جَمِيعِ الْخُرُوجِ بِخِلَافِ الْخَاصِّ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهَا فَكَذَا يَصِحُّ النَّهْيُ وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ حَتَّى لَا يَحْنَثَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إذَا خَرَجَتْ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ حَنِثَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْحَالِفَ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَحْنَثُ مَا دَامَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ لِتَصَوُّرِ الْبِرِّ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِفَوَاتِ الْبِرِّ وَهُنَا فِي مَسْأَلَتِنَا الْيَمِينُ مُطْلَقَةٌ عَنْ الْوَقْتِ فَمَا دَامَ الْحَالِفُ حَيًّا يُرْجَى وُجُودُ الْبِرِّ وَهُوَ الْإِتْيَانُ فَلَا يَحْنَثُ فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ تَعَذَّرَ شَرْط الْبِرُّ وَتَحَقَّقَ شَرْطُ الْحِنْثِ وَهُوَ تَرْكُ الْإِتْيَانِ فَيَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ حَتَّى إذَا مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ لَا يَحْنَثُ أَمَّا إذَا فَاتَ الْوَقْتُ قَبْلَ دُخُولِهِ وَهُوَ حَيٌّ يَحْنَثُ وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ اهـ
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ لَيَأْتِيَنَّهُ إنْ اسْتَطَاعَ إلَخْ) أَيْ وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّ زَيْدًا غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ فَلَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سُلْطَانٍ أَوْ عَارِضٍ آخَرَ فَلَمْ يَأْتِهِ حَنِثَ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ فِي الْعُرْفِ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ قَالَهُ الرَّازِيّ وَقَالَ الْكَمَالُ وَلَوْ حَلَفَ أَيْ بِاَللَّهِ أَوْ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إنْ اسْتَطَاعَ وَصُورَتُهُ فِي التَّعْلِيقِ أَنْ يَقُولَ امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ لَمْ آتِك غَدًا إنْ اسْتَطَعْت وَلَا نِيَّةَ لَهُ تُصْرَفُ الِاسْتِطَاعَةُ إلَى سَلَامَةِ آلَاتِ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَصِحَّةِ أَسْبَابِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَهَذَا مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ اسْتِطَاعَةُ الصِّحَّةِ دُونَ الْقُدْرَةِ أَيْ دُونَ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ بَلْ تُخْلَقُ مَعَهُ بِلَا تَأْثِيرٍ لَهَا فِيهِ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَوْ أَرَادَ هَذِهِ بِقَوْلِهِ إنْ اسْتَطَعْت صَحَّتْ إرَادَتُهَا فَإِذَا لَمْ يَأْتِهِ لِعُذْرٍ مِنْهُ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَحْنَثُ كَأَنَّهُ قَالَ لَآتِيَنَّكَ إنْ خَلَقَ اللَّهُ إتْيَانِي أَوْ إلَّا أَنْ يَخْلُقَ إتْيَانِي وَهُوَ إذَا لَمْ يَأْتِ لَمْ يُخْلَقْ إتْيَانُهُ وَلَا اسْتِطَاعَةُ الْإِتْيَانِ الْمُقَارِنَةُ وَإِلَّا لَأَتَى وَإِذَا صَحَّتْ إرَادَتُهَا فَهَلْ يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً أَوْ دِيَانَةً فَقَطْ قِيلَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً فَقَطْ لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ وَهُوَ قَوْلُ الرَّازِيّ وَقِيلَ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ إذْ كَانَ اسْمُ الِاسْتِطَاعَةِ يُطْلَقُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لَكِنْ تُعُورِفَ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْقَرِينَةِ لِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِخُصُوصِهِ وَهُوَ سَلَامَةُ آلَاتِ الْفِعْلِ وَصِحَّةُ أَسْبَابِهِ فَصَارَ ظَاهِرًا فِيهِ بِخُصُوصِهِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِ الظَّاهِرِ اهـ
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْتِطَاعَةُ الْحَالِ وَالْمُرَادُ بِهَا سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ وَحَدُّهَا التَّهَيُّؤُ لِتَنْفِيذِ الْفِعْلِ عَنْ إرَادَةِ الْمُخْتَارِ وَالثَّانِي اسْتِطَاعَةُ الْفِعْلِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْقُدْرَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفِعْلُ وَلَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ وَهِيَ عَرَضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْفِعْلِ مَعًا وَهِيَ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ عِنْدَنَا وَزَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهَا سَابِقَةٌ عَلَى الْفِعْلِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْكَرَّامِيَّةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ إنْ نَوَى حَقِيقَةَ الْقُدْرَةِ الَّتِي تُقَارِنُ الْفِعْلَ) أَيْ وَهِيَ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ حَالَةَ الْفَعْلِ مُقَارِنَةً لَهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ اهـ
(قَوْلُهُ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ قَالَ الطَّحَاوِيُّ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَجِبُ أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ) وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute