احْتِيَاطٍ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فِيمَا يُبْنَى عَلَى الدَّرْءِ فَإِنْ قِيلَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَكْثَرُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَشْرُوعًا قُلْنَا حَبْسُهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ فَيَحْبِسُهُ تَعْزِيرًا لَهُ «وَحَبَسَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» بِخِلَافِ الدُّيُونِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ لِأَنَّ الْحَبْسَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ إلَّا بِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَبْلَ الثُّبُوتِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّ فِيهَا عُقُوبَةً أُخْرَى أَغْلَظَ مِنْهُ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبِإِقْرَارِهِ أَرْبَعًا فِي مَجَالِسِهِ الْأَرْبَعَةِ كُلَّمَا أَقَرَّ رَدَّهُ) أَيْ يَثْبُتُ الزِّنَا بِإِقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ كُلَّمَا أَقَرَّ رَدَّهُ الْقَاضِي وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْتَفَى بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُظْهِرٌ وَتَكْرَارُهُ لَا يَزِيدُ شَيْئًا كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ بِخِلَافِ كَثْرَةِ الْعَدَدِ فِي الشُّهُودِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ وَلَنَا حَدِيثُ «مَاعِزٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخَّرَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ إلَى أَنْ تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ» فَلَوْ ظَهَرَ دُونَهَا لَمَا أَخَّرَهَا لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ اُخْتُصَّتْ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فَكَذَا الْإِقْرَارُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِلسَّتْرِ وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ فَعِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِيهِ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَيَرُدُّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبُ بِهِ حَتَّى يَغِيبَ عَنْ نَظَرِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «طَرَدَ مَاعِزًا حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ» فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا رَدَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ عَقْلُهُ لِأَنَّهُ جَاءَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ
وَلَمَّا اسْتَبَانَ لَهُ عَقْلُهُ رَجَمَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لَهُ «أَبِكَ خَبَلٌ أَبِكَ جُنُونٌ فَقَالَ لَا فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا مَا نَعْلَمُ فِيهِ إلَّا خَيْرًا وَبَعَثَ إلَى أَهْلِهِ هَلْ تُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا فَقَالُوا لَا فَسَأَلَهُ عَنْ إحْصَانِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُحْصَنٌ فَرَجَمَهُ» قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عَقْلِهِ إذْ هِيَ حَالَةُ التَّوْبَةِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ لَا عَلَى جُنُونِهِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَبِكَ خَبَلٌ أَبِكَ جُنُونٌ» تَلْقِينٌ مِنْهُ لِمَا يُدْرَأُ بِهِ الْحَدُّ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَهُ «لَعَلَّك قَبَّلْتهَا لَعَلَّك بَاشَرْتهَا» وَالسُّؤَالُ عَنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ بَعْدَمَا أَقَرَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إنَّك إنْ اعْتَرَفْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك فَاعْتَرَفَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ ظَاهِرًا عِنْدَهُمْ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ أَبِي بُرَيْدَةَ كُنَّا نَتَحَدَّثُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَاعِزًا لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقِرَّ لَمْ يَرْجُمْهُ وَصَحَّ «أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ رَجَمَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ مَا أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ» وَلَا يُقَالُ إذَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَجَبَ أَنْ يَجِبَ الْمَهْرُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْءٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَإِذَا وَجَبَ الْمَهْرُ وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ لِأَنَّا نَقُولُ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ تَمَّتْ الْحُجَّةُ لَمْ يَجِبْ وَإِلَّا وَجَبَ كَمَا قُلْنَا فِي الشَّهَادَةِ إنَّ الْبَعْضَ إذَا شَهِدُوا يَتَوَقَّفُ الْأَمْرُ فَإِنْ تَمَّ النِّصَابُ لَا يَكُونُ قَذْفًا وَإِلَّا فَهُوَ قَذْفٌ فَكُنَّا مُتَوَقِّفِينَ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى الزَّانِيَيْنِ
وَلَا فَرْقَ فِي الْإِقْرَارِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَفِي الْعَبْدِ خِلَافُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْمَجَالِسِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فَقَطْ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّاهُ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَزْجُرَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيُظْهِرَ الْكَرَاهِيَةَ مِنْ ذَلِكَ وَيَأْمُرَ بِإِبْعَادِهِ عَنْ مَجْلِسِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَ كَذَلِكَ وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اُطْرُدُوا الْمُعْتَرِفِينَ يَعْنِي بِالزِّنَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَسَأَلَهُ كَمَا مَرَّ فَإِنْ بَيَّنَهُ حُدَّ) أَيْ إذَا تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَأَلَهُ كَمَا مَرَّ فِي الشَّهَادَةِ وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى وَمَتَى زَنَى لِيَزُولَ الِاحْتِمَالُ عَلَى مَا مَرَّ وَقِيلَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْ الزَّمَانِ لِأَنَّ تَقَادُمَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ) أَيْ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ بَعْدُ وَحَبْسُ الْمُتَّهَمِينَ تَعْزِيرًا لَهُمْ جَائِزٌ. اهـ. كَمَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَبِإِقْرَارِهِ) أَيْ بِإِقْرَارِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَاعْتِبَارُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ كَلَامَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ اهـ قَالَ الْكَمَالُ قَدَّمَ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَا أَقْوَى حَتَّى لَا يَنْدَفِعَ الْحَدُّ بِالْفِرَارِ وَلَا بِالتَّقَادُمِ وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْإِقْرَارُ قَاصِرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا وَلَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ وَلِذَا قُلْنَا لَوْ أَقَرَّ الْأَخْرَسُ بِالزِّنَا بِكِتَابَةٍ أَوْ إشَارَةٍ لَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ بِعَدَمِ الصَّرَاحَةِ وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَدَّعِيَ شُبْهَةً كَمَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى مَجْنُونٍ أَنَّهُ زَنَى فِي حَالِ إفَاقَتِهِ بِخِلَافِ الْأَعْمَى صَحَّ إقْرَارُهُ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ وَظَهَرَ مَجْبُوبًا أَوْ أَقَرَّتْ فَظَهَرَتْ رَتْقَاءُ، قَبْلَ الْحَدِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ إخْبَارَهَا بِالرَّتْقِ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَبِالشُّبْهَةِ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِخَرْسَاءَ أَوْ هِيَ أَقَرَّتْ بِأَخْرَسَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اهـ
(قَوْلُهُ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ) أَيْ لَا مَجَالِسِ الْقَاضِي. اهـ. (قَوْلُهُ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ) أَيْ فِي بَابِ الْحَجْرِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْمَجَالِسِ) أَيْ فَيُقَامُ الْحَدُّ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. اهـ. (قَوْلُهُ وَبِمَنْ زَنَى) الْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ حَتَّى لَوْ قَالَ زَنَيْت بِامْرَأَةٍ لَا أَعْرِفُهَا صَحَّ إقْرَارُهُ وَيُحَدُّ. اهـ. بَدَائِعُ (قَوْلُهُ وَمَتَى زَنَى) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ السُّؤَالَ عَنْ الزَّمَانِ فِي الْإِقْرَارِ بِأَنْ يَقُولَ مَتَى زَنَيْت لِأَنَّ التَّقَادُمَ مَانِعٌ لِلشَّهَادَةِ لِتُهْمَةِ الْحِقْدِ وَالْمَرْءُ لَا يُتَّهَمُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَإِنْ تَقَادَمَ الْعَهْدُ وَبَيَانُ التَّقَادُمِ يُعْلَمُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَقَالَ الْكَمَالُ وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ فَلَا يَقُولُ مَتَى زَنَيْت وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ وَهَذَا السُّؤَالُ لِتِلْكَ الْفَائِدَةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّقَادُمُ مُسْقِطًا، لَمْ يَكُنْ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ فَائِدَةٌ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ فِي ذَلِكَ سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَهَذَا بِخِلَافِ سُؤَالِ بِمَنْ زَنَيْت لِأَنَّهُ قَدْ