يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْت مُدَامَةً ... فَقُلْتُ لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْتُ السَّفَرْجَلَا
وَلَهُمَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ ثُمَّ اسْتَنْكَهُوهُ فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَمَا ذَهَبَتْ رَائِحَتُهَا وَاعْتَرَفَ بِهِ فَعَزَّرَهُ وَلَمْ يَحُدَّهُ وَلَا يُقَالُ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِنَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلِأَنَّا نَقُولُ لَا بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحَدِّ كَانَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ إجْمَاعُهُمْ بِرَأْيِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ شَرَطَا فِيهِ الرَّائِحَةَ وَلَا إجْمَاعَ عِنْدَ عَدَمِ الرَّائِحَةِ وَمُطْلَقُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» مَخْصُوصٌ بِالْمُضْطَرِّ وَالْمُكْرَهِ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ أَيْضًا بِإِجْمَاعِهِمْ وَلِأَنَّ قِيَامَ الْأَثَرِ مِنْ أَقْوَى دَلَائِلِهِ عَلَى الْقُرْبِ فَيُقَدَّرُ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْحُدُودِ لِعَدَمِ الْأَثَرِ فِيهَا فَيَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُهُ وَالتَّمْيِيزُ مُمْكِنٌ لِمَنْ يَعْرِفُ وَإِنَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَى الْجُهَّالِ وَكَوْنُهُ مُقِرًّا لَا يُنَافِي التَّأْكِيدَ بِاشْتِرَاطِ الرَّائِحَةِ كَمَا لَا يُنَافِي التَّأْكِيدَ فِي الزِّنَا بِاشْتِرَاطِ التَّكْرَارِ ثُمَّ الرَّائِحَةُ يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا عِنْدَ التَّحَمُّلِ حَتَّى لَوْ أَخَذُوهُ وَرِيحُهَا يُوجَدُ فِيهِ ثُمَّ انْقَطَعَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا بِهِ إلَى الْإِمَامِ لِبُعْدِ مَسَافَةٍ يَجِبُ الْحَدُّ
وَمِنْهُ احْتِرَازٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ رِيحِهَا لَا لِبُعْدِ مَسَافَةٍ وَلَوْ جَاءُوا بِهِ سَكْرَانًا يُشْتَرَطُ فِيهِ وُجُودُ الرَّائِحَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَأَشَارَ فِي الْهِدَايَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وَأَمَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا أَوْ مُضْطَرًّا وَالرَّائِحَةُ مُحْتَمَلَةٌ أَيْضًا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالشَّكِّ وَكَذَا إذَا وُجِدَ سَكْرَانًا لَا يُحَدُّ لِاحْتِمَالِ مَا ذَكَرْنَا وَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ الْمُبَاحِ وَأَمَّا إذَا رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ وَهَذَا وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فَصَارَ شُبْهَةً وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِهَا وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ وَهُوَ سَكْرَانٌ فَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ وَفِي إقْرَارِهِ زِيَادَةُ الِاحْتِمَالِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مِثْلَ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا أَنَّهُ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي السَّرِقَةِ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ عَلَى شَيْءٍ فَأُقِيمَ السُّكْرُ مَقَامَ الرُّجُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
الرَّائِحَةُ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عُرِفَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي حَامِدٍ الْحَنَفِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ بِابْنِ أَخٍ لَهُ سَكْرَانَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ تَرْتَرُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ فَفَعَلُوا فَرَفَعَهُ إلَى السِّجْنِ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْغَدِ وَدَعَا بِسَوْطٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُقَّتْ ثَمَرَتُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى صَارَتْ دِرَّةً ثُمَّ قَالَ لِلْجَلَّادِ اجْلِدْ وَارْجِعْ يَدَك وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَدُفِعَ بِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ كَوْنُ الشَّهَادَةِ لَا يُعْمَلُ بِهَا إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الرَّائِحَةِ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِيهِ شَهَادَةٌ مُنِعَ مِنْ الْعَمَلِ بِهَا لِقِيَامِ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَائِهَا بَلْ وَلَا إقْرَارٌ إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ حَدَّهُ بِظُهُورِ الرَّائِحَةِ بِالتَّرْتَرَةِ وَالْمَزْمَزَةِ وَالتَّحْرِيكِ بِعُنْفٍ وَالتَّرْتَرَةُ وَالتَّلْتَلَةُ التَّحْرِيكُ وَهُمَا بِتَاءَيْنِ مَنْقُوطَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِأَنَّ بِالتَّحْرِيكِ تَظْهَرُ الرَّائِحَةُ مِنْ الْمَعِدَةِ الَّتِي كَانَتْ خَفِيَتْ وَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَاَللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَحْسَنْت فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إذْ وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَقَالَ أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ الْكِتَابَ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ وَفِيهِ لَفْظُ رِيحِ شَرَابٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الرَّائِحَةِ مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ الرَّائِحَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَصَحُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَفْيُهُ وَمَا ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ يُعَارِضُ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ عَزَّرَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ الرَّائِحَةَ وَيَتَرَجَّحُ وَلِأَنَّهُ أَصَحُّ اهـ مَعَ حَذْفٍ (قَوْلُهُ
يَقُولُونَ لِي انْكَهْ شَرِبْت مُدَامَةً
الْبَيْتَ) يُرْوَى بِكَلِمَةِ قَدْ وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ وَبِدُونِهَا وَهِيَ رِوَايَةُ الْفُقَهَاءِ فَعَلَى الْأَوَّلِ تَسْقُطُ الْهَمْزَةُ لِلْوَصْلِ مِنْ انْكَهْ فِي اللَّفْظِ وَعَلَى الثَّانِي تُحَرَّكُ بِالْكَسْرِ لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَيَجُوزُ تَحْرِيكُ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي الْحَشْوِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَمُطْلَقُ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ. اهـ. (قَوْلُهُ وَالتَّمْيِيزُ مُمْكِنٌ) أَيْ بَيْنَ الرَّوَائِحِ. اهـ. (قَوْلُهُ لِبُعْدِ مَسَافَةٍ يَجِبُ الْحَدُّ) أَيْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ وَلَا يَكُونُ التَّقَادُمُ مَانِعًا عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الشَّهَادَةِ حِينَئِذٍ عَنْ عُذْرٍ فَلَا يُتَّهَمُونَ فِي التَّأْخِيرِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ إذَا أَخَّرُوا الشَّهَادَةَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فَكَذَا هُنَا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ وَهُوَ سَكْرَانٌ) اعْلَمْ أَنَّ السَّكْرَانَ إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ لَا يُؤْخَذُ بِهِ إلَّا حَدَّ الْقَذْفِ بَيَانُهُ أَنَّ السَّكْرَانَ إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى نَحْوَ حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا أَقَرَّ وَلَا يُحَدُّ لِأَنَّ كَلَامَهُ هَذَيَانٌ يُحْتَمَلُ الْكَذِبُ وَمَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْحُدُودَ يُحْتَالُ لِدَرْئِهَا لَا لِإِثْبَاتِهَا إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَوْ أَقَرَّ بِحَدٍّ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ أَوْ أَقَرَّ بِقِصَاصٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بِطَلَاقٍ أَوْ بِعَتَاقٍ صَحَّ إقْرَارُهُ إلَّا أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ إذَا صَحَّا وَهَذَا لِأَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَلَا يُقَامُ بِدُونِ دَعْوَى الْمَقْذُوفِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ قَالَ الْكَمَالُ وَهَذَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَالسَّكْرَانُ كَالصَّاحِي فِيمَا فِيهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْآفَةَ عَلَى نَفْسِهِ فَإِذَا أَقَرَّ بِالْقَذْفِ سَكْرَانًا حُبِسَ حَتَّى يَصْحُوَ فَيُحَدَّ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُحْبَسَ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهُ الضَّرْبُ فَيُحَدَّ لِلسُّكْرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ سَكْرَانًا وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالسُّكْرِ مِنْ الْأَنْبِذَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ مُطْلَقًا عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَدِّ بِالسُّكْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ وَإِلَّا فَبِمُجَرَّدِ سُكْرِهِ لَا يُحَدُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute