للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرُّجُوعَ وَبِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ فِي حَالَةِ السُّكْرِ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ فَيُعْتَبَرُ فِعْلُهُ فِيمَا يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَاعْتِقَادٍ بِخِلَافِ ارْتِدَادِهِ حَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ وَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ بِهِ لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَالِاعْتِقَادِ وَهُوَ شَرْطٌ فِيهِ

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ارْتِدَادُهُ كُفْرٌ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَلَوْ أَسْلَمَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ كَإِسْلَامِ الْمُكْرَهِ وَهَذَا إذَا سَكِرَ بِالْمُحَرَّمِ وَأَمَّا إذَا سَكِرَ بِالْمُبَاحِ كَشُرْبِ الْمُضْطَرِّ وَالْمُكْرَهِ وَالْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْعَسَلِ وَالدَّوَاءِ فَلَا تُعْتَبَرُ تَصَرُّفَاتُهُ كُلُّهَا وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ بَيَّنَ حَدَّ السَّكْرَانِ بِقَوْلِهِ بِأَنْ زَالَ عَقْلُهُ وَهُوَ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَا الرِّجَالَ مِنْ النِّسَاءِ وَلَا يَعْرِفَ شَيْئًا وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا هُوَ مَنْ يَهْذِي وَيَخْلِطُ جَدَّهُ بِهَزْلِهِ وَلِأَنَّهُ هُوَ السَّكْرَانُ فِي الْعُرْفِ أَلَا تَرَى إلَى مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ سَوْطًا

وَلَهُ أَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَتُعْتَبَرُ النِّهَايَةُ فِي سَبَبِهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ وَنِهَايَةُ السُّكْرِ أَنْ يَغْلِبَ السُّرُورُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَسْلُبَ التَّمْيِيزَ أَصْلًا وَمَا دُونَهُ لَا يَخْلُو عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] عَبَّرَ عَنْ الصَّحْوِ بِعِلْمِ مَا يَقُولُونَ فَكَانَ السُّكْرُ ضِدَّهُ وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَا يَقُولُونَ وَعَلَى قَوْلِهِمَا أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَالْمُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ بِالِاتِّفَاقِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْحُرُمَاتِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُعْتَبَرُ ظُهُورُ أَثَرِ السُّكْرِ فِي مَشْيِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَأَطْرَافِهِ وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ فَإِنَّ الصَّاحِيَ رُبَّمَا يَتَمَايَلُ فِي مَشْيِهِ وَالسَّكْرَانَ قَدْ لَا يَتَمَايَلُ وَيَمْشِي مُسْتَقِيمًا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَحَدُّ السُّكْرِ وَالْخَمْرِ وَلَوْ شَرِبَ قَطْرَةً ثَمَانُونَ سَوْطًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرْبَعُونَ لِمَا رَوَيْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ» وَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُضْرَبَ شَارِبُ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ» وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ جَلْدَةً رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَمَالِكٌ بِمَعْنَاهُ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَمَا رَوَاهُ كَانَ بِجَرِيدَتَيْنِ فَنَعْلَيْنِ فَيَكُونُ كُلُّ ضَرْبَةٍ بِضَرْبَتَيْنِ فَكَانَ حُجَّةً لَنَا وَاَلَّذِي يَدُلُّك عَلَى هَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «جُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ بِنَعْلَيْنِ» فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ بَدَلَ كُلِّ نَعْلٍ سَوْطًا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْجَرِيدَتَانِ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَجْلِدَ الْوَلِيدَ ثَمَانِينَ وَفِي رِوَايَةٍ أَرْبَعِينَ

وَيَتَوَجَّهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَلَدَ الْوَلِيدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُسْنَدِهِ وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ ضَرْبِهِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا جَلَدَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَمَانِينَ بَعْدَمَا اسْتَشَارَ النَّاسَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلِلْعَبْدِ نِصْفُهُ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ وَأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَدْ جَلَدُوا عَبِيدَهُمْ نِصْفَ الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَبْلُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفُرِّقَ عَلَى بَدَنِهِ كَحَدِّ الزِّنَا) لِأَنَّ تَكْرَارَ الضَّرْبِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا وَيُتَوَقَّى الْمَوَاضِعُ الَّتِي اسْتَثْنَاهَا فِي حَدِّ الزِّنَا لِمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ إيصَالَ الْأَلَمِ بِالْبَدَنِ وَيُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِنَا مُبَالَغَةً فِي الْإِيلَامِ وَلِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ كَحَدِّ الزِّنَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ وَلِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْقَاذِفُ صَادِقًا فِيهِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

بِإِقْرَارِهِ بِالسُّكْرِ. اهـ. (قَوْلُهُ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ) أَيْ بَعْدَ الصَّحْوِ. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ وَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ) قَالَ الْكَمَالُ وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ أَوْ الِاسْتِخْفَافِ وَبِاعْتِبَارِ الِاسْتِخْفَافِ حُكِمَ بِكُفْرِ الْهَازِلِ مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِهِ لِمَا يَقُولُ وَلَا اعْتِقَادَ لِلسَّكْرَانِ وَلَا اسْتِخْفَافَ لِأَنَّهُمَا فَرْعُ قِيَامِ الْإِدْرَاكِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّكْرَانَ الَّذِي لَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَنْطِقًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَدِّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَقَوْلِهِمَا وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ. اهـ. (قَوْلُهُ فَتُعْتَبَرُ النِّهَايَةُ فِي سَبَبِهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ) أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الزِّنَا تُعْتَبَرُ الْمُخَالَطَةُ كَالْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَفِي السَّرِقَةِ يُعْتَبَرُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ التَّامِّ فَكَذَا هُنَا اُعْتُبِرَ أَقْصَى غَايَاتِ السُّكْرِ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغًا لَا يَعْرِفُ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَالرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يُحَدُّ وَلِأَنَّ السُّكْرَ نَاقِصٌ وَفِي النَّقْصِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ حَيْثُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا السُّكْرُ أَصْلًا وَلِأَنَّ حُرْمَتَهَا قَطْعِيَّةٌ لَا اجْتِهَادِيَّةٌ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ) قَالَ الْكَمَالُ وَإِنَّمَا اخْتَارُوا لِلْفَتْوَى قَوْلَهُمَا لِضَعْفِ وَجْهِ قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَ يُؤْخَذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا فَقَدْ سَلَّمَ أَنَّ السُّكْرَ يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْحَالَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا وَأَنَّهُ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ هِيَ سُكْرٌ. اهـ. (قَوْلُهُ وَيَمْشِي مُسْتَقِيمًا) أَيْ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ. اهـ. هِدَايَةٌ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَحَدُّ السُّكْرِ) وَالسُّكْرُ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْكَافِ كَذَا السَّمَاعُ أَيْ حَدُّ الْخَمْرِ كَيْفَمَا شَرِبَهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَنْ طَوْعٍ فَإِنَّ حُرْمَتَهَا قَطْعِيَّةٌ يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْهَا بِلَا اشْتِرَاطِ السُّكْرِ وَحَدُّ السُّكْرِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ فَإِنَّ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ مَا لَمْ يَسْكَرْ وَلِأَنَّ حُرْمَتَهَا اجْتِهَادِيَّةٌ اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ ثَمَانُونَ سَوْطًا) أَيْ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَفُرِّقَ عَلَى بَدَنِهِ) أَيْ وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ الضَّرْبُ وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُرَادُ بِهِ الطُّهْرَةُ مِنْ الذَّنْبِ وَجَمِيعُ الْأَعْضَاءِ تَحْتَاجُ إلَى التَّطْهِيرِ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَثْنَاةِ فَإِنَّ الضَّرْبَ عَلَى الْوَجْهِ يُورَثُ الْمَثُلَةَ وَهِيَ مَنْهِيَّةٌ وَالضَّرْبَ عَلَى الْفَرْجِ وَالرَّأْسِ يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ) أَيْ فَإِنَّهَا لَا تُنْزَعُ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>