إذَا رَآهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي النِّعَمِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي مِحْنَةٍ وَشِدَّةٍ يُخَافُ أَنْ يَمِيلَ إلَى دِينِهِمْ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: ٣٣] الْآيَةَ وَحِكَايَةُ قَارُونَ مَعَ الضَّعَفَةِ مِنْ قَوْمِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعْرُوفَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُوَقَّرُ وَالذِّمِّيَّ يُحَقَّرُ وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ وَلَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَامَةٌ يُمَيَّزُ بِهَا لَمَا وَقَعَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِالْعَلَامَةِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِكَثْرَةِ النَّاسِ فِي أَيَّامِهِ فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ تَقَعْ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ إلَّا بِالْعَلَامَةِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ فَالْحَقُّ مَعَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَلَا نَصَارَى نَجْرَانَ وَلَا مَجُوسَ هَجَرَ بِالْعَلَامَةِ» لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ وَحَالُهُمْ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْعَلَامَةِ وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَلَا يَلْبَسُونَ طَيَالِسَةً مِثْلَ طَيَالِسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَرْدِيَةً مِثْلَ أَرْدِيَتِهِمْ وَلَا كُلَّ لِبَاسٍ يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالشَّرَفِ وَإِنْ رَكِبُوا الضَّرُورَةَ مِنْ سَفَرٍ وَنَقْلِ مَرِيضٍ نَزَلُوا فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ لُبْسِ زَنَانِيرِ الْإِبْرَيْسَمِ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْكُسْتِيجِ وَهُوَ الْخَيْطُ الْغَلِيظُ وَيُؤْمَرُ بِتَمْيِيزِ نِسَائِهِمْ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الطَّرِيقِ وَالْحَمَّامِ وَتُجْعَلُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَةٌ كَيْ لَا يَقِفَ عَلَيْهَا السَّائِلُ فَيَدْعُو لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ بِالْإِبَاءِ عَنْ الْجِزْيَةِ وَالزِّنَا بِمُسْلِمَةٍ وَقَتْلِ مُسْلِمٍ وَسَبِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُنْتَقَضُ أَمَانُهُ بِالسَّبِّ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الْأَيْمَانَ فَكَذَا الْأَمَانُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَهُ وَهُوَ خَلَفٌ عَنْهُ وَلَنَا «أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّامُ عَلَيْك فَقَالَ أَصْحَابُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ فَلَمْ يَنْتَقِضْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَهْدَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَعَلَى مَالِكٍ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ بِسَبِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ السَّبَّ كُفْرٌ مِنْهُ فَالْكُفْرُ الْمُقَارِنُ لَا يَمْنَعُ الْعَهْدَ فَكَذَا الطَّارِئُ لَا يَرْفَعُهُ وَهَذَا لِأَنَّ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ وَقَبُولُهَا لَا أَدَاؤُهَا
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
لَا إعْزَازٌ لِأَنَّ إذْلَالَهُمْ وَاجِبٌ بِغَيْرِ أَذًى مِنْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ بِلَا سَبَبٍ يَكُونُ مِنْهُ بَلْ الْمُرَادُ اتِّصَافُهُ بِهَيْئَةٍ وَضِيعَةٍ وَكَذَا لَوْ أُمِرُوا بِالْكُسْتِيجَاتِ. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ {سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: ٣٣] تَنْبِيهًا عَلَى خِسَّةِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ الذِّمِّيُّ فَجْأَةً فِي الطَّرِيقِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَلَامَةٌ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَاجِبٌ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ لُبْسِ زَنَانِيرِ الْإِبْرَيْسَمِ) قَالَ الْكَمَالُ وَإِذَا مُنِعُوا مِنْ شَدِّ زُنَّارٍ وَهُوَ حَاشِيَةٌ رَقِيقَةٌ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ فَمَنْعُهُمْ مِنْ لِبَاسِ الثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ الَّتِي تُعَدُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَاخِرَةً سَوَاءٌ كَانَتْ حَرِيرًا أَوْ غَيْرَهُ كَالصُّوفِ الْمُرَبَّعِ وَالْجُوخِ الرَّفِيعِ وَالْأَبْرَادِ الرَّفِيعَةِ أَوْلَى وَلَا شَكَّ فِي وُقُوعِ هَذَا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ وَلَا شَكَّ فِي مَنْعِ اسْتِكْتَابِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مُعَظَّمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ رُبَّمَا يَقِفُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ خِدْمَةً لَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَغَيَّرَ خَاطِرُهُ مِنْهُ فَيَسْعَى بِهِ عِنْدَ مُسْتَكْتِبِهِ سِعَايَةً تُوجِبُ لَهُ مِنْهُ الضَّرَرَ وَكَذَا يُؤْخَذُونَ بِالرُّكُوبِ عَلَى سُرُوجٍ فَوْقَ الْحُمُرِ كَهَيْئَةِ الْإِكَافِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ بَلْ اخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنْ لَا يَرْكَبُوا أَصْلًا إلَّا إذَا أُخْرِجُوا إلَى أَرْضِ قَرْيَةٍ وَنَحْوِهَا أَوْ كَانَ مَرِيضًا أَيْ إلَّا أَنْ تَلْزَمَ الضَّرُورَةُ فَيَرْكَبُ ثُمَّ يَنْزِلُ فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرَّ بِهِمْ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ وَتُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ وَلَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَعَلَيْكُمْ فَقَطْ اهـ وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ زَنَانِيرَ مَا نَصُّهُ الزُّنَّارُ لِلنَّصَارَى وِزَانُ تُفَّاحٍ وَالْجَمْعُ زَنَانِيرُ. اهـ. مِصْبَاحٌ (قَوْلُهُ وَهُوَ الْخَيْطُ الْغَلِيظُ) أَيْ فِي غِلَظِ الْأُصْبُعِ مِنْ الصُّوفِ يَشُدُّهُ فَوْقَ ثِيَابِهِ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ كَيْ لَا يَقِفَ عَلَيْهَا السَّائِلُ فَيَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ) أَيْ أَوْ يُعَامِلَهُمْ بِالتَّضَرُّعِ كَمَا يَتَضَرَّعُ لِلْمُسْلِمِينَ وَتُجْعَلُ مَكَاعِبُهُمْ خَشِنَةً فَاسِدَةَ اللَّوْنِ. اهـ. فَتْحٌ
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ إلَخْ) ذَكَرَ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَابِ الْبُغَاةِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا أَعَانُوا أَهْلَ الْبَغْيِ عَلَى الْقِتَالِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ وَلَا أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ عَهْدَهُمْ لَا يُنْتَقَضُ بِهِ. اهـ. (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الْإِيمَانُ) يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا كَانَ سَبُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقُضُ إيمَانَهُ. اهـ. (قَوْلُهُ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَعَلَى مَالِكٍ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ بِسَبِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) أَيْ إنْ لَمْ يُسْلِمْ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ. اهـ. كَاكِيٌّ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ قَالَ الْكَمَالُ فَيَصِيرُ مُبَاحَ الدَّمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ عِنْدَنَا وَقَيَّدَ بِأَدَائِهَا لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا نُقِضَ عَهْدُهُ ثُمَّ قَالَ الْكَمَالُ وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ سَبَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ نِسْبَةُ مَا لَا يَنْبَغِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعْتَقِدُونَهُ كَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ إذَا أَظْهَرَهُ يُقْتَلُ بِهِ وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ وَلَكِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَكْتُمُهُ فَلَا وَهَذَا لِأَنَّ دَفْعَ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ عَنْهُمْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِمْ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ بِالنَّصِّ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِمْرَارُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَبُولِ وَإِظْهَارِ ذَلِكَ مِنْهُ يُنَافِي قَيْدَ كَوْنِ قَبُولِ الْجِزْيَةِ رَافِعًا لِقَتْلِهِ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ فِي التَّمَرُّدِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ جَارِيًا عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ الْقَتْلَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَاغِرًا ذَلِيلًا وَهَذَا الْبَحْثُ مِنَّا يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا اسْتَعْلَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهٍ صَارَ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِ حَلَّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ أَوْ يَرْجِعُ إلَى الذُّلِّ وَالصَّغَارِ اهـ قَالُوا إذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ طَعْنًا ظَاهِرًا جَازَ قَتْلَهُ لِأَنَّ الْعَهْدَ مَعْقُودٌ مَعَهُ عَلَى أَنْ لَا يَطْعَنَ فَإِذَا طَعَنَ فَقَدْ نَكَثَ عَهْدَهُ وَخَرَجَ مِنْ الذِّمَّةِ ذَكَرَهُ حَافِظُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: ١٢]. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute