إعَانَةُ الْإِمَامِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْقُعُودِ عَنْ الْفِتْنَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَاجِزِينَ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ لَهُمْ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَاتَّبَعَ مُوَلِّيهِمْ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قِتَالِهِمْ دَفْعُ شَرِّهِمْ وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى جَمَاعَتِهِمْ فَيَعُودُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا وَلَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ رُجُوعُهُمْ إلَى الْجَمَاعَةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: ٩] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِلَّا لَا) أَيْ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَا يُجْهِزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا يَتَّبِعُ مُوَلِّيهِمْ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَالَ صَرَخَ صَارِخٌ لِعَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ لَا يُقْتَلَنَّ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَيَوْمَ الْجَمَلِ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ وَلِأَنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَقَدْ انْدَفَعَ بِدُونِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْتَلُ فِي الْوَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ إلَّا دَفْعًا وَلَا دَفْعَ فِي قَتْلِهِ بَعْدَ مَا تَرَكَ الْقِتَالَ وَنَحْنُ نَقُولُ الْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَمْ تُسْبَ ذُرِّيَّتُهُمْ وَحُبِسَ أَمْوَالُهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا) لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْجَمَلِ لَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَوْلُهُ لَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُ لِئَلَّا يَنْفَلِتَ وَيَلْحَقَ بِهِمْ وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِأَنَّ شَرَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ الِاسْتِرْقَاقَ ابْتِدَاءً وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُكْشَفُ سِتْرٌ وَحِينَ طَلَبَ مِنْهُ أَصْحَابُهُ أَنْ يَقْسِمَ النِّسَاءَ بَيْنَهُمْ قَالَ إذَا قُسِمَتْ النِّسَاءُ فَلِمَنْ تَكُونُ عَائِشَةُ فَأَبْهَتَهُمْ بِذَلِكَ وَقَطَعَ شُبْهَتَهُمْ وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَتَكُونُ أَمْوَالُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ مَعْصُومَةً بِالْعِصْمَتَيْنِ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ احْتَاجَ قَاتَلَ بِسِلَاحِهِمْ وَخَيْلِهِمْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقَاتِلُ بِهِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِمَالِهِ بِدُونِ رِضَاهُ وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَسَمَ سِلَاحَهُمْ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلتَّمَلُّكِ بِدَلِيلِ مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا أَنْ لَا يُؤْخَذَ مَالٌ وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِمَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخَذَ الدِّرْعَ مِنْ صَفْوَانَ بِغَيْرِ رِضَاهُ» فَمَا ظَنُّك بِمَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ فِيهِ دَفْعُ شَرِّهِمْ وَإِنْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ حَبَسَهُ عَنْهُمْ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِمْ تَقْوِيَةً لَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالْكُرَاعُ يُبَاعُ وَيُحْبَسُ ثَمَنُهُ لِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَيْسَرُ وَأَحْفَظُ لِلْمَالِيَّةِ فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَزَالَتْ الْفِتْنَةُ رَدَّهَا عَلَيْهِمْ لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ يُعِينُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الْبَغْيِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ وَلَا أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ عَهْدَهُمْ لَمْ يُنْتَقَضْ بِهِ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ قَتَلَ بَاغٍ مِثْلَهُ فَظُهِرَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ) أَيْ إنْ قَتَلَ بَاغٍ بَاغِيًا مِثْلَهُ فِي عَسْكَرِهِمْ عَمْدًا ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِمَنَعَةٍ وَلَا وِلَايَةَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ حَالَةَ الْقَتْلِ فَلَمْ يُوجِبْ وَلَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا بَعْدَهُ كَالْقَتْلِ فِي دَارِ الْحَرْبِ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ غَلَبُوا عَلَى مِصْرٍ فَقَتَلَ مِصْرِيٌّ مِثْلَهُ فَظَهَرَ عَلَى الْمِصْرِ قُتِلَ بِهِ) يَعْنِي إذَا غَلَبَ الْبُغَاةُ عَلَى مِصْرٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ رَجُلًا مِنْ الْمِصْرِ عَمْدًا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمِصْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ أَحْكَامُ أَهْلِ الْبَغْيِ بَلْ أَزْعَجَهُمْ الْإِمَامُ الْعَدْلُ قَبْلَ ذَلِكَ عَنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ لِأَنَّ وِلَايَةَ إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ تَنْقَطِعْ قَبْلَ أَنْ تَجْرِيَ أَحْكَامُهُمْ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ وَبَعْدَ الْإِجْرَاءِ تَنْقَطِعُ فَلَا يَجِبُ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ قَتَلَ عَادِلٌ بَاغِيًا أَوْ قَتَلَهُ بَاغٍ وَقَالَ أَنَا عَلَى حَقٍّ وَرِثَهُ وَإِنْ قَالَ أَنَا عَلَى بَاطِلٍ لَا) أَيْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَقَالَ الْبَاغِي الْقَاتِلُ قَتَلْتُهُ وَأَنَا عَلَى الْحَقِّ وَرِثَهُ وَإِنْ قَالَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَاجِزِينَ) أَيْ إذْ الْعَاجِزُ لَا يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ. اهـ.
(قَوْلُهُ أُجْهِزَ) ضَبَطَهُ الزَّيْلَعِيُّ لِلْمَفْعُولِ اهـ (قَوْلُهُ يَوْمَ الْجَمَلِ) وَيَوْمُ الْجَمَلِ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقْعَةُ عَائِشَةَ مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْجَمَلِ لِأَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ يَوْمئِذٍ عَلَى الْجَمَلِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ الْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ) أَيْ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ. اهـ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ) قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ قَوْلُهُ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ أَيْ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ اهـ (قَوْلُهُ فَتَكُونُ أَمْوَالُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ مَعْصُومَةً بِالْعِصْمَتَيْنِ) أَيْ الْإِسْلَامِ وَالدَّارِ. اهـ.
(قَوْلُهُ وَالْكُرَاعُ) قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ الْكُرَاعُ الْخَيْلُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَإِنْ قَتَلَ بَاغٍ مِثْلَهُ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَصُورَتُهَا فِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا كَانُوا فِي عَسْكَرٍ فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْهُمْ عَمْدًا ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ أَيْ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ دِيَةٌ وَلَا قِصَاصٌ وَهَذَا لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا يُبَاحُ قَتْلُهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ كَسْرًا لِشَوْكَتِهِمْ فَلَمَّا كَانَ يُبَاحُ قَتْلَهُمْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ بَلْ أَزْعَجَهُمْ الْإِمَامُ الْعَدْلُ قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ أَيْ أَقْلَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْمِصْرِ قَبْلَ أَنْ تَجْرِيَ أَحْكَامُهُمْ. اهـ. (قَوْلُهُ وَبَعْدَ الْإِجْرَاءِ تَنْقَطِعُ فَلَا يَجِبُ) أَيْ وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ عَذَابَ الْآخِرَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَإِنْ قَتَلَ عَادِلٌ بَاغِيًا إلَخْ) وَأَصْلُهُ أَنَّ مَا تَلِفَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْفِرْقَتَيْنِ لَكِنْ يَأْثَمُ الْبَاغِي وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَجِبُ عَلَى الْبَاغِي ضَمَانُ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَفِي الْجَدِيدِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اهـ