لا يزال الكلام موجَّهاً الى بني إسرائيل، وأحبارهم على الخصوص. لقد وبخهم الله على اعوجاج سيرتهم وفساد أعمالهم، فقد كانوا يتلون التوراة ولا يعملون بما فيها. كانوا يأخذون ما يوافقهنم ويتركون ما يعارض شهواتهم وأهواءَهم. وقد جاء في عدة مواضع من التوراة نبأ البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فحرّفوا هذه الباشرة وأوّلوها بما يوافق هواهم. حتى إن بعض احبارهم كان ينصح سراً بالإيمان بمحمد لمن يحب ولا يعمل بذلك.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يعني: ألا يوجد فيكم عقل يردكم عن هذه السفة؟
ومع ان الخطاب ليهود، وهذا حالهم، فإنه عامٌ وعبرة لغيرهم.
وبعد ان بيّنت الآيات سوء حالهم وأن عقلهم لم ينفعهم، أرشدتْهم الى الطريقة المثلى للانتفاع بالكتاب والعقل والعمل فقال تعالى:{واستعينوا بالصبر والصلاة} . . والصبر حبْسُ النفس على ما تكره. وقد حث الله على الصبر كثيراً في عدة آيات، وجعل أحسن الجزاء لمن صبر على الشدائد، وعن الشهوات المحرمة التي تميل اليها النفوس، وعلى أنواع الطاعات التي تشق على النفس. كذلك أمر بالاستعانة بالصلاة لما فيها من تصفية النفس ومراقبتها في السر والنجوى. وناهيك بعبادة يناجي فيها العبدُ ربه خمس مرات في اليوم! وليست الصلاة مجرد عبادة فحسب، بل هي انبعاث خفي لروح العبادة في الانسان، وأقوى صورة للطاقة التي يمكن أن يولّدها الانسان. واذا ما أصبحت الصلاة الصادقة عادةً فإن حياتنا ستمتلىء بفيض عميق من الغنى الملموس.
لذلك ورد الحث على الصلاة في كثير من الآيات. ان الصلاة قوة لا يقدّرها الا العارفون والملهمون. ولذلك قال تعالى:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} أي أن الصلاة ثقيلة شاقّة إلا على المؤمنين ايماناً حقيقياً، الخاشعين لله حقا. {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي الّذين يتوقعون لقاءَ الله تعالى يوم الحساب والجزاء، فيجازيهم أحسن الجزاء على ماقدّموا من عمل صالح.