الخلق: التقدير والترتيب الدال على الاتقان. اختلاف الليل والنهار: تعاقبهما. الألباب: العقول. وعلى جنوبهم: مضطجعين. الأبرار: المحسنون، واحدُها بار أو بَر. على رسُلك: على أَلسنة رسلك.
من أسلوب القرآن الكريم انه يجذب النفوس والعقول من الاشتغال بالخلق الى الاستغراق في معرفة الحق، فيأتي بين الآيات وفي أواخر السور بآيات مشوّقة تريح الأعصاب وتشوق القلوب. فقد اشتملت هذه الآيات الحكيمة على ثلاثة أمور:
الأول: لما طال الكلام في تقرير الأخذ والرد والجواب عن شبهات المبطلين، عاد التنزيل الى إثارة القلوب بِذِكر ما يدل على التوحيد والالوهية. فقال: ان هذا الكون بذاته كتابٌ مفتوح، يحمل دالائل الايمان وآياته، ويشير الى أن وراء هذا الكون يداً تدبره بحكمة، ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا حياةً أخرة، وحساباً وجزاء.
هذا ما اتفقت على وجوده الأديان الكتابيّة، وان اختلفت في تمثيل الحياة الأخرى.
وقد آمن الفلاسفة بالحياة الاخرى قبل الاديان الكتابية جميعاً وبعد مجيئها أيضا. فمن أشهر المؤمنين بها قبل الأديان «أفلاطون» ، ومن أشهرهم بعدها «عمانويل كانت» ، وهما يجمعان أطراف الآراء الفلسفية في سبب الإيمان ببقاء النفس بعد الموت. . . . ونريد من الاشارة الموجزة الى رأي هذين الفيلسوفين، ان يذكر الناظرون في مسألة الحياة بعد الموت انها مسألة بحث وتفكير، لا قضية اعتقاد وايمان فحسب. . ان العقل لا يرخجها من تناول بحثه، فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال. وعلى هذا، ينبغي ان يروض فكره كلُّ من ينظر الى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم. وانما يدرك هذه الدلائل، ويرى هذه الحكمة «أُولو الألباب» من الناس، لا الذين يمرون بهذا الكتاب المفتوح وأعينهم مغمضة، وعقولهم مغلقة غير واعين.
والثاني: مدحٌ لأولي الألباب الذين يذكرون الله على كل حال، فهم يتفكرون في عظمة هذا الكون ثم يبتهلون الى الله بهذه الدعوات الصادقة، المنبعثة من قلوب صافية مؤمنة.
والأمر الثالث: استجابة الخالق العظيم لهم، بأنه لا يضيع أجر أحد، وأنهم سيرجعون الى رب رحيم، عادل، قد أعدّ لهم أحسن الثواب وأجمل الاقامة. وها هو التفسير باقتضاب:
ان في خلق الله للسماوات والأرض، بما فيهما من ابداع، وإحكام نظام، وبديع تقدير، وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق نحسّ آثاره في أجسامنا بفعل حرارة الشمس وبرد الليل لدلائل بيناتٍ لأصحاب العقول المدركة على وحدانية الله، وكمال قدرته.
وفي هذه الآية اشارة الى حقائق مذهلة في هذا الكون العجيب، ذلك ان السماء ما هي الا آية من آيات الله تبدو لنا بتأثير الاشعة الشمسية على الغلاف الجوي المحيط بالأرض.