هذه الآيات سيقت لبيان اقوالٍ قالها المنافقون، بعضُها قِيلتْ جهراً، وبعضها أكنُّوه في انفسهم.
{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} .
من المنافقين أُناس يستأذنونك في التخلّف عن القتال حتى لا يفتَتِنوا بنساء الروم. «روي عن مجاهد وابن عباس انها نزلت في الجدّ بن قيس من بين سَلِمة، وكان من أشراف بين سلمة، فقد قال للرسول الكريم: أئذنْ لي يا رسولَ الله في القعود، فإن أخشى على نفسي إنْ أنا رأيتُ نساء بني الأصفر (يعني الروم) ، أن أفتتنِ. فقال الرسول وهو معرِضٌ عنه: قد أدنتُ لك» .
{أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} .
فليْعلموا أنهم بمقالتهم هذه قَد سَقطوا وأوقعوا أنفسَهم في معصية الله.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} .
وان نار جهنم لمحيطةٌ بهم في اليوم الآخر.
روى يعقوب بن سفيان في تاريخه وابو الشيخ في الأمثال: ان رسول الله قال لبني سَلِمة من الانصار: من سيِّدُكم يا بني سلمة؟ قالوا: الجدّ بن قيس، على بخلٍ فيه. فقال رسول الله: وأيُّ داءٍ أدْوَأُ من البُخل؟ ولكن سيّدكم الفتى الجَعْدُ الأبيض، بِشرُ بن البُراء ابن معرور. وفي الفائق في غريب الحديث للزمخشري: بلى سيدكم عمرو بن الجموح والجعد الكريم الجواد. واذا قيل جعد اليدين وجهد البنان فمعناه: البخيل اللئيم.
ثم بين الله تعالى عداوةَ المنافقين، زيادةً في تشهيرِ مساوئهم بقوله:
{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} .
ان هؤلاء المنافقين لا يريدون لك أيها الرسول ولأصحابك الا المكارِه، فيتألّمون إذا نالكم خيرٌ من نصرٍ أو غنيمة.
{وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} .
ويفرحون إذا اصابكم مكروه م جِراح او قتل او هزيمة، ويقولون شامتين: قد أخذْنا حِذْرَنا بالقعود، إذ تخلّفنا عن القتال ولم نُلقِ بأيدينا الى الهلاك. ثم ينصرفون مسرورين.
روى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جَعل المنافقون الذين تخلّفوا في المدينة عن غزوة تبوك يُشيعون أخبارَ السُّوء عن النبي وأصحابه، ويقولون إنهم جَهدوا في سفرهم وهلكوا، فتبيَّنَ بعد ذلك كِذْبُهم وسلامةُ النبيّ واصحابه فساءهم ذلك، فأنزل الله تعالى: {إِن تُصِبْك. . . . الآية} .
ثم أرشد الله تعالى الى جوبهم بُبطلان ما بَنَوْا عليه مسرَّتَهم بقوله:
{قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} .
قل ايها الرسول لأولئك المنافقين الذين فرِحوا بمُصابِك وساءتْهُم نعموُ الله عليك: لن ينالَنا في ديانا من الخير او الشرّ إلى ما قدّره الله علينا، فنحن راضون بقضائه.
{هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} .
هو ناصُرنا ومتولِّي أُمورِنا، ونحن نلجأُ إليه ونتوكل عليه، وعليه وحده يعتمد المؤمنون الصادقون. فالمسلم الصادق يبذل جهده ويظلّ متوكلا على الله.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} .
إن أمْرَ المؤمنِ كلّه خيرٌ، سواء نالَ النصرَ او الشهادة، أما الكافر فأمْرثه كله شَرّ، سواء أصابه عذابُ الله المباشر او على أيدي المؤمنين.
قل لهم أيها الرسول: لن ينالنا الا أحدُ أمرين، وكلاهما خير، إما النصرُ والغنيمة في الدنيا، وإما الشهادة في سبيل الله والجنةُ في الآخرة.
ونحن نتربَّص بكم ان يُوقع الله بكم عذاباً من عندِه يُهلككم به، او يعذبكم بالذلَّة على أيدِينا فانتظِروا أَمْرَ الله، ونحنُ منتظِرون.