أعقبهم: أورثهم ونجواهم: كلامهم الخفي.
تُعتبر هذه الآياتُ بياناً لحال طائفة اخرى من المنافقين: أغناهم اللهُ بعد فقرٍ، فلما كثر مالُهم وأصبحوا من الأغنياء كفرو النعممة وهضَموا الحقوق.
{وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} .
ومن المنافقين نَفَرٌ أعطى اللهَ عهدَه وميثاقه لئن آتاه مالاً وثروة لشكرنّ الله على نعمته بالصَدَقة، وليعلمنَّ عمل أهل الصلاح من صِلة الرَّحْم والإنفاق في سبيل الله.
{فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} .
فلما استجاب الله لهم، وأعطاهم من فضله ما طلبوا، بخلوا بما أُوتوا وأمسكوه، فلم يتصدّقوا منه بشيء وانصرفوا عن الخير، وهم معرضون عنه وعن الله.
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} .
كانت عاقبةُ بُخلِهم أن تمكَّنَ النفاقُ في قلوبهم الى ان يموتوا ويلقوا الله يوم الحساب.
ثم ذكر سببين هما من أخصّ أوصاف المنافقين: إخلافُ الوعد والكذِب فقال:
{بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} .
ذلك بسبب نقضِهم لعهدهم وكِذْبِهم في يمينهم.
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب} .
الم يعملوا - وهم يدَّعون الإيمان - أن الله مطَّلِعٌ على السرائر، لا يخفى عليه ما يُضمِرونه في السر من نقض العهد، وما يتناجَوْن به في الخفاء من الطعن في الدين وتدبير المكايد للمسلمين! وان الله يعلم الغيوب كلَّها لا يخفى عليه شيء في هذا الكون.
وقد وردت عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات. «روى ان جرير ان ثَعلبةَ بن حاطِبٍ الأنصاري قال لرسول الله: ادعُ الله أن يرزقَني مالا، فقال له رسول الله:» ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدّي شُكرَه خيرٌ من كثيرٍ لا تُطيقه «.
فراجعه مرة اخرى وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطينَّ كل ذي حق حقه، فدعا له فاخذ غنماً، فمنت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة. فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة. فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: كثُرَ ماله حتى لا يَسَعُه واد، فقال: يا ويح ثعلبة، فبعث رسلو الله مصدقين لاخذ الصدقات فاستقبلها الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه وأقرآه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال ما هذه الا جزية ما هذه الا اخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي، فلما جرعا اخبرا رسول الله بما قال ثعلبة، فقال: ويح ثعلبة، فانزل الله تعالى:» ومنهم من عاهد الله لئن آتاهم من فضله لنصدقن. . . «فسمع بذلك ثعلبة فجاء بالصدقة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ان الله منعني ان اقبل منك صدقتك. فجعل يحثوا على رأسه التراب. وقبض رسول الهل فجاء أبا بكر الصديق فلم يقبلها، ثم جاء عمر فلم يقبلها، وجاء عثمان فمل يقبلها رضي الله عن هم، وهلك في خلافه عثمان» .
وهذه الصورة من البشر موجودة في كل زمان ومكان، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الصوليون.