قال تعالى:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ}[القصص:٢٠]، والملأ في القرآن تعني: علية القوم، من الوزراء، والأمراء، والحاشية، الذين لهم الأمر والنهي، {يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ}[القصص:٢٠] أي: سيصدرون قرار القتل قريباً، وقد يكون الناس في طريقهم إليك، فماذا يفعل؟ هل يرجع إلى البيت يودع أمه وأقرباءه ويأخذ حاجته، ويرتب ملابسه ويأخذ له نقوداً؟ لا، بل يخرج من المدينة مباشرة، {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}[القصص:٢١]{قاَل رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:٢١]، وهنا صفة واضحة ظهرت في موسى، خاصة في هذه الآيات، ألا وهي: الاتصال الوثيق بالله سبحانه وتعالى، ويخرج موسى متوجهاً تلقاء مدين ويقول:{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}[القصص:٢٢]، يخرج موسى طريداً ليس معه شيء، ولا يعرف أحداً في المدينة وليس معه نقود، وليس له مركب ولا طعام، فلما ورد ماء مدين وجد أمة من الناس يسقون، فهذا الذي فرَّ من فرعون يصبح له بين لحظة وأخرى بيت وزوجة وعمل، فقد وجد امرأتين تذودان تنتظران الرعاة الغلاظ الشداد الذين يسقون أغنامهم، ثم تقومان هما بالسقي، فيسألهما موسى بكل شهامة ومروءة:((مَا خَطْبُكُمَا)) ولم يقل: أنا رجل غريب، والغريب ليس له دخل في هذه القضايا، لا بل لا بد أن يتفاعل المسلم مع الحياة دائماً باستمرار، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}[القصص:٢٣]، أي: ليس لنا أحد، وأبونا شيخ كبير، فأخذتْ موسى الرأفة وسقى لهما، وكان رجلاً شديداًً واستطاع أن يسقي أغنامهما وحده، ثم ذهب إلى ظل شجرة وقال:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:٢٤]، وما كادت الفتاتان تغيبان حتى رأى واحدة منهما راجعة وقالت:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}[القصص:٢٥]، فلما جاء وقص عليه خبره وقصته مع فرعون وقومه، {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:٢٥] أي: أن القوم الظالمين ليس لهم سلطان على هذه الديار.
قال تعالى:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ استأجره}[القصص:٢٦]؛ فهاتان فتاتان ترعيان الغنم وتسقيانها باستمرار، وقد تعبتا، وكان موسى قوياً أميناً ينبغي أن يُستأجر، وصفة العامل أن يكون قوياً أميناً، وكل بحسبه، فالمحاسب قوي في معرفة المحاسبة وأصولها، والمهندس أمينٌ وقوي في صنعته؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لهدَّم العمارة، والمدرس إذا لم يكن أميناً وقوياً فكيف يدرس الطلاب ويفهمون منه؟! فهي قالت:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:٢٦]، فإذا بالشيخ يعرض عليه العرض ويقول:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[القصص:٢٧]، فكون الشيخ يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه ويسكنه معه في البيت ويشغله فهو أمر جيد، لكن مقارنة مع ما كان فيه من النعيم فهو أمر صعب، لكن الحكمة تقتضي أن يتفهم القائد الحياة بمختلف أشكالها وألوانها.