للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نماذج القوانين الشرعية عبر التاريخ]

من المصائب الكبيرة في دراسة هذا الموضوع والتي تلفت نظر الباحث والتي أدركتها أخيراً عن بعض حكام الدولة العثمانية، فلقد كانت الدول الأوروبية تجرجرنا كما تشاء، ومن أعجب ما يقف عليه الباحث في تاريخ هذه الدولة أن سليمان القانوني حكم الدولة العثمانية في قمة توسعاتها، وبلغت غاية قوتها وغاية توسعها في عهد سليمان القانوني، ومع ذلك أعطى سليمان القانوني للدولة الفرنسية أخطر وثيقة، وهي ما يسمى بالامتيازات الأجنبية النجم، فصار لدولة كافرة مثل فرنسا الحق في رعاية الذين هم على دينها ومن رعاياها في داخل الدولة الإسلامية، فكان لا يجوز أن يحاكم رجل ولا يعتدى على رجل من رعايا الدولة الفرنسية، ولا تستطيع الحكومة أن تدخل بيته، وكادت فرنسا أن تقيم معركة بينها وبين تركيا عندما جاء حاكم بعد فترة وألغى الامتيازات الأجنبية، فحشدت فرنسا قواتها لتحارب تركيا، وفعلاً عندما ضعفت تركيا كانت الامتيازات الأجنبية من أخطر ما أذلت هذه الأمة، واقرءوا مذكرة السلطان عبد الحميد وهو يعترف بهذا فيقول: إن الامتيازات الأجنبية منافية لكرامتنا، ولقد أذلتنا.

يعترف بهذا في مذكراته فالشريعة الإسلامية لا تقبل أن حاكماً يعطي للدولة الكافرة حق التدخل في شئون الدولة الإسلامية الداخلية، فهذا الحاكم المسلم وقع في خطأ، وأعطى السبيل على نفسه للكفار ليفسدوا في ديارنا، ثم تكون النتيجة ما رأينا في النهاية.

مأساتنا وصلنا نحن الآن بعد مسيرة طويلة إلى المصاب الذي نحن فيه الآن، كانت الشريعة الإسلامية ملغاة، ومن يطالب الآن بالشريعة الإسلامية تحز رقبته، ويصير متطرفاً، والمتعقلون يقولون لك: المهم أن تصلي وتصوم وتزكي، نحن هنا في فرنسا، وبريطانيا، وأمريكا نصوم ونصلي ولا أحد يقول لنا: لا.

إذا كانت المسألة قضية عبادة ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حارب، وقد وجدت جماعة اسمهم الحنفاء، كانوا يوحدون الله قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان أحد من الناس يتعرض لهم، لكن لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول لهم: اعبدوا الله وحده، واتركوا عبادة الأصنام، ويقول لهم: الحكم لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، اختلف الأمر، في تركيا الدولة العلمانية إذا شئت أن تصلي لا أحد يمنعك، لكن أن يكون الله هو الحاكم الذي يحكم الكون، ويحكم الإنسان لأنه خلق الإنسان، ولأن حكمه هو الذي يصلح للإنسان، لا، وهي صورة متكررة في جميع مراحل تاريخ البشرية، إذ كل رسول يأتي يقول للناس: الله إلهكم ومعبودكم، اعبدوه وحده وتحاكموا له وحده، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:٤٠]، ويقول لهم: الأمر أمره والخلق خلقه، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤].

أنت الله خلقك وأوجدك، وصورك، وسواك، فله الخلق لا شريك له، وله الأمر وحده، فليس لغيره أمر، فإذا خالف أمره أمر غيره فلا اعتبار له، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:٨].

قبل (سنة ٢٠٠٠) قبل الميلاد وضع حمورابي قانوناً، ولا يزال موجوداً محفوظاً في المتحف الفرنسي، وهو مكتوب على حجر طوله تسعة أمتار ونصف، يشتمل على (٣٢٠) مادة، وقانون مانو في الهند موجود، والقانون الروماني في آخر صورة له عندما كانوا يتحاكم إليه في بيزنطة في القسطنطينية لا يزال موجوداً بين أيديهم، هذه قوانين وضعها البشر، وشرائع الله التي أنزلها على رسله حدثنا الله بها، فكانت هذه القوانين مضاداة للشرائع التي أنزلها الله، ونحن اليوم نعيش صراعاً بين الذين آمنوا بالله ورضوا به رباً يعبدونه وحده لا شريك له، وبين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى أفكارهم وقادتهم وزعمائهم ورؤسائهم، ويريدون أن يكون الأمر لغير الله، وأن يكون الحكم لغير الله، ومن سنة الله أن ينشأ الصراع.

هذا الصراع نجح فيه الكفار في القرن الماضي، وكانت الجولة لهم لضعف في النفوس ولأسباب استطاع أن ينفذها الكفار بدقة، ولكن بعد أن نشأ في المسلمين من يعرف القضية لا بد من جولة أخرى، نحن بدأنا هذه الجولة ونحن نقدم في كل يوم ضحايا، ونقدم جهداً ومالاً، ولكن هذا هو لب المعركة، وسيستمر الصراع إلى أن يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة من يرفع الراية مرة أخرى، وأن يلم شعث المسلمين، وأن يعيد بهم للإسلام عزته، ويرفع بهم رايته، لترتفع الشمس من جديد، وتشرق على القلوب والعباد، فيرضى بذلك رب العباد سبحانه وتعالى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.