ولقد حقق المسلمون بفضل الله ورحمته في عالم البشر الرقي العظيم، والذي أصبحوا به خير أمة أخرجت للناس، ويمكن أن نلخص العوامل التي أوصلت الأمة الإسلامية إلى هذا الرقي العظيم في عبارة واحدة: هي أن المسلمين حققوا الهدف الذي خلقوا من أجله، فقد خلق الله البشر من أجل هدف واحد وهو العبودية له سبحانه، والمسلمون الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم حققوا الهدف الذي خلقوا من أجله، ألا وهو العبودية لله العظيم، قال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦]، ومن أجل تحقيق هذا الهدف العظيم أنزل الله كتبه وأرسل رسله، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:٢٥]، ويحقق البشر العبودية لله في عالمهم عندما يرضون بالله إلهاً معبوداً، ويتخذون دينه الذي أنزله منهجاً يستمدون منه عقيدتهم وأخلاقهم وتشريعهم، فالدين الذي أنزله الله يقيم العباد على النحو الذي يريده الله تبارك وتعالى، وهو نظام كامل يصوغ حياة البشر صياغة إلهية، لذا فإن العبارة التي تقول: إن الإسلام منهج حياة، تلخص القضية بأوجز عبارة وأوضحها: تحقيق العبودية باتخاذ الإسلام منهج حياة يحقق الصلاح للنوع الإنساني في داخل نفسه وفي مجتمعه، ولذلك لم يبعد الذين قالوا: إن غاية الدين الذي أنزله الحق هي إصلاح النوع الإنساني وقطع دابر الفساد، كما قال بعض الرسل لقومه:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}[هود:٨٨]، وذم الله المفسدين في الأرض بقوله:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة:٢٠٥].
إن الإصلاح حسب فقهنا لكتاب الله تبارك وتعالى يتم بأمرين: الأول: إصلاح الفرد، والثاني: إصلاح المجتمع، وبالتأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أنه جاهد في مكة لإصلاح الفرد في عقيدته وتفكيره وتصوراته وسلوكه؛ ليكون لبنة صالحة، ثم كان الجهاد الكبير في المدينة لتحقيق المجتمع الراقي الذي انضبط بضوابط الشريعة الإسلامية، وقد نجح الإسلام في إقامة مجتمع صالح استنارت بصائر أفراده وصلحت عقائدهم، وقومت أخلاقهم، وأحكمت العلاقات فيما بينهم، وكانت الدينونة فيه لله وحده، وكان حاكم المسلمين فيه واحداً منهم، يخضع للشريعة كما يخضعون، ويحاسب كما يحاسبون، ونسج الإسلام من ذلك المجتمع وحدة كانت آصرتها الدين، ولحمتها التقى، وهدفها تحقيق العدل في ربوع الأرض بمنهج إلهي، وساح المسلمون في المشارق والمغارب ينشرون دين الله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وتحطمت القوى الجاهلية الجبارة أمام المد الإسلامي المتماسك، وأصبحت الدولة الإسلامية هي الدولة العظمى إلى أمد ليس بالقصير، وصدَّق الله في هذه الأمة قوله:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد:١١]، فلقد كان العرب في جزيرة العرب حيارى تائهين ضائعين، يسلب قويهم ضعيفهم، ويقتل بعضهم بعضاً، فلا دين يجمعهم، ولا ملك يوحدهم، فغيروا ما بهم من أمراض وأصلحوا نفوسهم وأمتهم بالدين، فارتقوا إلى مرتبة لم يسبقهم فيها سابق، ولم يلحقهم فيها لاحق، وكانوا كما قال الله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:١١٠].
فأنجز الله لهم ما وعدهم، فاستخلفهم في الأرض ومكن لهم دينهم الذي هو سبب عزهم وذكرهم عندما أنجزوا ما شرطه الله عليهم، قال عز وجل:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}[النور:٥٥]، ولا نزال إلى اليوم ننعم ببقية صلاح الأجيال الأولى التي حملت الإسلام، فعلى الرغم من البلايا والرزايا التي تعرض لها الإسلام من أعدائه وحكامه عبر تاريخ المسلمين الطويل إلا أن الإسلام لا يزال له وجود ظاهر، وحملته من المسلمين منتشرون في كل مكان.