[إقحام العقل فيما لا مجال له فيه لا يؤدي إلى نتيجة]
ولن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي الوحي من الفلاسفة والمفكرين، ولكنني سأحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئاً ما، فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم، وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا ورائه طويلاً.
فهذا الرازي وهو أحد هؤلاء، وقد عانى في مسيره كثيراً من العنت، ثم يعلن أخيراً أنه لم يصل إلى شيء، وكان قد ابتعد عن المنهج القرآني النبوي، وجرى وراء نتائج العقول الإنسانية، فلم تقده الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ووجد في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب، إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه (أقسام اللذات) أشم منها رائحة النواح والحزن الصاعد من قلب مكلوم، فقد قال: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)[فاطر:١٠]، وأقرأ في النفي:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠]، ويختم حديثه قائلا: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
ويصور لنا كذلك عبد الكريم الشهرستاني، وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علم الملل والنحل، حال أصحاب الكلام في علوم العقائد، في مقدمة كتابه (نهاية الإقدام في علم الكلام) فيقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم ولا أنسى الجويني، وهو الذي كان يدعى بـ (إمام الحرمين) وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، ولما حضره الموت إذا به ينظر في مساره في الحياة، وينظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، فلقد أضاع الكثير من عمره في مسار لم يصله إلى مراده، لقد كان يخوض في بحر خضم من أفكار وعقائد وموازين لا يقر قلب من خاضها على قرار، فإذا به يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول: لقد دخلت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي.
وهذا عالم آخر من علماء الكلام، يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئاً، فيعلن ذلك لمن حوله ويقول: اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدمي فلم أعرف شيئاً.