[الانحراف في الفهم نتيجة البعد عن المنهج]
لقد سئل علي بن أبي طالب عن الخوارج: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله صباح مساء، قالوا: فمن هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فأعمتهم وأصمتهم، فلم يفقهوا الحق.
كان عندهم علماء الصحابة الذين تربوا على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وعندهم بصيرة في الدين وفي العلم، فكان ينبغي عليهم أن يتواضعوا وأن يرجعوا إلى هؤلاء، وليدرسوا على أيديهم، ويفهموا عنهم دينهم، ويفهموا عنهم الحق.
قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:٢٥٦] لقد كنت في مجلس مع بعض الذين عندهم شيء من العلم، فرأيت آراء غريبة وتصورات عجيبة في أمور العقيدة وفي أمور الدين، تدل على أن من يحدثني قد قرأ كثيراً وعلم كثيراً، ولكنه لا يفهم الحق مما قرأ ومما علم، وهذه مشكلة، فالقضية ليست قضية أن يقرأ الإنسان، وأن ينتهي من قراءة شرح البخاري، وقراءة شيء من كتب التفسير وغيرها، وإنما المهم الهداية التي توصلنا إلى الله سبحانه وتعالى.
إذاً: المسألة هي مسألة وصول إلى الحق، ألا ترون أن الله يرشدنا إلى أن نقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] فنحن دائماً ندعو بها، وهذه الآية تضمنتها أعظم سورة أنزلت من عند الله، فهي سورة لا يوجد مثلها لا في التوراة ولا في الإنجيل، ألا وهي سورة الفاتحة.
إذاً فالهداية شيء عظيم، فلا تظنوا أيها الإخوة أن ميزان الاستقامة على الحق أن يكون الإنسان دائماً مكثراً من الصلاة ومن الصوم وكونه يحفظ القرآن ويكثر من تلاوته، لا، بل لا بد أن يكون على هداية ومعرفة بالحق؛ لأنه قد يضل عن الحق من يحفظ كتاب الله ومن يقوم الليل ويصوم النهار، كما حدث لهؤلاء الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة العبادات، ونرى هذا النموذج من البشر يتكرر في كل عصر وحين، فالذي يقرأ تاريخ الإسلام يرى مظاهر هؤلاء الذين حدث عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم موجودين في كل عصر وحين، ولا زلنا نراهم في أيامنا هذه، فمن الناس من يقرءون الكتاب ولا يفهمونه، أو قد يفهمون الكتاب فهماً خاطئاً، ومن هنا يحتاج علماء المسلمين أن يجعلوا ضوابط للعقيدة، وضوابط للاجتهاد، وضوابط للفهم حتى لا يضل الناس.
كان المسلمون ولا يزال فيهم علماء يعصمون الأمة من الانحراف، ويعصمون الأمة من الضلال، عُرِفوا بمنهج صحيح على مر التاريخ الإسلامي، ذلك المنهج الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
فالطائفة المعصومة، والطائفة المرحومة، والطائفة الناجية هي التي تسلك مسلكاً سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكن هناك طوائف من المسلمين كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فيحقر أحدكم قراءته مع قراءتهم، وصلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن وهم يظنون أنه حجة لهم وهو حجة عليهم، مثل بعض الناس الذين لمعوا في أيامنا هذه، فتراه يجهل الأمة بأكملها، فهو لا يعترف بعلماء الأمة السابقين، بل حتى إنه لا يعترف بعلم كثير من الصحابة ولا فضلهم، وقد نصب نفسه حاكماً في كل شيء، وجعل رأيه وقوله وفهمه هو الصراط المستقيم، فهذه فتنة وضلال، كما قال علي بن أبي طالب: (تعمي وتصم) أي: تجعل الإنسان لا يفقه الحق ولا يتبينه.
إن الفهم الذي يشاؤه الله لهذا الدين واضح بين، وهو الذي كان عليه المسلمون طويلاً، ولا تزال فئة من المسلمين كثيرة على هذا الحق تتبينه وتهدي به وترشد إليه.
فالذي ينبغي على أبناء المسلمين أن يتبينوا الإسلام، وأن يدرسوا الإسلام قبل أن ينصبوا أنفسهم قادة يوجهون ويرشدون، فيُضِلون ويضلون ويكون عليهم الوزر والإثم.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (حدثاء الأسنان) أي: أنهم نصبوا أنفسهم قبل أن يعلموا، وإلا فقد كان في صغار الصحابة من هو من كبار العلماء، والإمام الشافعي رحمه الله حفظ كتاب الله وتلقى العلم ودرسه وتبينه ودرس وأفتى وهو لم يبلغ العشرين، فكان صغيراً لكنه عالم، فليس في الصغر عيب، ولكن لا بد أن يتلقى الإنسان العلم ويفهمه على أصوله وعلى قواعده التي بينها الله وشرعها، وسار عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.