[النفس التواقة]
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله.
من سيرة خلفاء المسلمين وحكامهم الخليفة الراشد الأموي عمر بن عبد العزيز، مما يروى عنه من مأثور القول أنه قال: إن لي نفس تواقة، تاقت إلى الإمارة فنلتها، ثم تاقت إلى الخلافة فنلتها، وإن نفسي تتوق إلى الجنة.
نفس الإنسان العظيم الكبير دائماً تطلب معالي الأمور، والإنسان الذي يطلب معالي الأمور لا يمكن أن يجد أمراً أعلى من أن يحقق ما يريده الله تبارك وتعالى، يقول: تاقت نفسي إلى الإمارة فنلت الإمارة، فوجدتها ليست بالشيء الذي يملأ نفسي، ثم تاقت إلى الخلافة فنلتها، ولكن لم أجد الخلافة تملأ نفسي، فتاقت النفس إلى جنة الله تبارك وتعالى.
المال لا يغني النفس، والمتاع لا يغني النفس، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثاً).
عندما يكون الإنسان فقيراً فيحصل على بيت، إذا به يريد بيتاً أحسن منه، وعندما يكون غنياً ويشتري قصراً، إذا به يريد قصراً أحسن منه، عندما يملك الإنسان الشيء من أمور الدنيا بعد ذلك لا يحترمه، لأن نفس الإنسان دائماً تريد الأعلى، ولذلك أدبنا القرآن بأدبين: الأدب الأول فيما يتعلق في أمور الدنيا، قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:١٣١]، انظر في أمور الدنيا إلى من هو أقل منك صحة وعافية ومالاً، فعند ذلك تحمد الله على نعمته.
أما فيما يتعلق بأمر الآخرة فانظر إلى الغني الذي ينفق ماله في سبيل الله، وإلى المجاهد الذي يبذل نفسه في سبيل الله، وإلى العالم الذي يبذل وقته في سبيل الله، وتطلع دائماً لأن تكون واحداً من هؤلاء؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو يسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله علماً فهو يقضي به بين الناس).
هذان الاثنان يتطلع إليهما الذي يحسن النية، فيتمنى أن يكون له مثل ذلك الغني المنفق في سبيل الله، ومثل ذلك العالم الذي يعلم الخلق وهو صادق في نيته، ولكنه لا يستطيع أن يحقق ذلك، له مثل أجرهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن خير الناس من آتاه الله علماً، فهو يسلطه على هلكته في الحق، ومن آتاه مالاً، ثم الذي يتمنى مثل ما لهذين فإنه ينال مثل أجرهما، (فهما في الأجر سواء) كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذي لا يؤتى مالاً ولا يؤتى في هذه الدنيا ما يتصرف فيه، ثم يتمنى أن يكون له مثل مال فلان المجرم السيئ من المال، يفسد كفساده، فهما في الوزر سواء، هذا لم ينل من الدنيا شيئاً يحقق به ما يطلبه من أهواء وشهوات، ثم ينال في الآخرة مثل إثم هذا الإنسان الآثم الفاجر.
ففي مجال الدنيا ينبغي للمسلم ألا يشغل نفسه كثيراً، وألا ينظر إلى من هو أعلى منه، وفي مجال الآخرة ينبغي أن تتطلع همته إلى المنازل العالية، (وإن في الجنة تسعاً وتسعين درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله).
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا وألهمنا رشدنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.