للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب إخبار الله تعالى بمكانة هذه الأمة وفضلها]

وقد أخبرنا الله تعالى أننا خير أمة أخرجت للناس لا لنتفاخر ونتمادح به، ونقف في المجامع والمحافل فنقول: إننا خير أمة أخرجت للناس؛ لأن الحياة الإنسانية مجال صراع رهيب بين الأمم، فكل أمة مهما كانت منزلتها ولو كانت في القاع تقول: أنا الأفضل وأنا الأحسن، فأخبر الله بمكانة هذه الأمة حتى لا تذل في مجال الصراع والخصام؛ لأن هذه الأمة صاحبة رسالة، وستصارع اليهود والنصارى والوثنيين والشيوعيين والبوذيين، فحتى لا تهون في مجال الخصام والصراع أخبرها الله تبارك وتعالى بمكانتها، فقال عز وجل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩].

ولقد ادعى كل من اليهود والنصارى أنهم الأفضل والأكمل وأن غيرهم ليس على شيء كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:١١٣]، والذين لا يعلمون: هم العرب الوثنيون، فقد قالوا: إن اليهود ليسوا على شيء، والنصارى ليسوا على شيء، ثم غلا اليهود والنصارى في دعواهم، فادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:١٨]، ثم ادعوا أن الجنة وقفٌ عليهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:١١١]، فركب كل فريق هذه الدعوى مطالباً غيره باتباع منهجه؛ لأنه هو الأفضل والأحسن، والجنة وقف عليه، وهو ابن الله؛ فالذي ينبغي للبشرية أن تتابعه وألَّا تقاتله، بل ينبغي أن تحترمه وتقدره، فقد جاء عن اليهود والنصارى أنهم قالوا: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:١٣٥]، أي: أنهم يطالبون غيرهم بأن يصبحوا يهوداً أو نصارى، فرد الله عليهم بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:١٣٥].

وكذلك هو حال الأمم التي ليس لها دين، فهي تدعي نفس الدعوى، فهذا هتلر رفع راية ألمانيا فوق الجميع، والشعب الأمريكي الآن يظن نفسه من طينة غير طينة البشر، فعندما يكلمك يكلمك وهو مصعر خده مستكبراً يظن أنك من جنسٍ غير جنسه، وهو من فئة غير فئة البشر.

وقد كان اليهود في ميزان الله تبارك وتعالى خير الأمم عندما استقاموا على الشريعة التي أنزلها الله تبارك وتعالى عليهم، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:٤٧]، قبل أن يقول فيهم: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:٣٢]، والنصارى كانوا أصحاب رسالة، ولهم في ميزان الله فضل عندما استقاموا على الدين الذي أنزله الله إليهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [الصف:١٤]، ولكن اليهود والنصارى انحرفوا عن المسار وتنكبوا الجادة، فأصبح اليهود مغضوباً عليهم والنصارى ضالين، وهم في ميزان الله من الخاسرين، فلقد غيروا وبدلوا فلعنهم الله، وغضب عليهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وهم لا يمثلون اليوم الفئة الفاضلة في ميزان الحق، وقد جاءت هذه الأمة من بعدهم لتكون هي الأمة الفاضلة، وإذا أنت رجعت إلى سورة البقرة وإلى ما حدثنا الحق فيها عن أهل الكتاب فسترى أن القرآن كشف لنا عن الدعوة المضللة التي يدعيها أهل الكتاب، من أنهم الأفضل والأصلح، وبين أنها دعوى زائفة، ذلك أن أهل الكتاب انحرفوا عن الخصائص التي كانت ترفعهم إلى مصاف الأمة الفاضلة، فقد سرت فيهم العلل والأدواء التي شوهت العقيدة الصافية والشريعة المنزلة، واختلت عندهم القيم والتصورات الإيمانية كما اختل السلوك والقول والعمل، فمن اتهاماتٍ للخالق العظيم، إلى تشويه لسير الأنبياء، إلى تحريف للكتب المنزلة، إلى كتمان للعلم، إلى سفك للدماء وتمرد على أحكام الشريعة، واتباع للشيطان.

وبعد هذا البيان الطويل لحال الأمم التي تدعي الأفضلية في سورة البقرة يأتي قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:١٤٣] أي: انتهت خيرية اليهود والنصارى، وأنتم يا أمة الإسلام الآن في المستوى الذي يصفه الله تبارك وتعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} [آل عمران:١١٠] أي: أنتم الأمة الفاضلة.

ولذلك يأتي بعد قليل قوله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:١٤٢] السفهاء هم اليهود والنصارى الذين اعترضوا على تحويل القبلة، فوصفهم الله تبارك وتعالى بالسفهاء، والسفه خفة في العقل، واضطراب في الموازين، فالسفيه لا يكون فاضلاً ولا يكون خيراً؛ لأنه فقد الخيرية والصلاح.

أما الأمم الأخرى التي تدعي الأفضلية، والتي ليس لها دين غير اليهود والنصارى ففضلها دنيوي عارض، ليس له في ميزان الله اعتبار؛ لأنه قائم على متاع الحياة الدنيا، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥] وقال سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:٧].

فلقد وصف القرآن الحضارات التي ارتفعت في العلوم المادية ولكنها انحدرت في عقيدتها وأخلاقها وقيمها بالضلال والزيغ؛ لأن المجتمع الذي يوصف بالرقي في ميزان الله هو المجتمع الذي يقيم حياته وفق منهج الله، وإن كان غير متقدم في مجال العمران والزراعة والصناعة.

أما الجاهلية فإنها تعتبر المجتمع راقياً إذا كان يملك العلوم المادية، والمجتمع المتأخر في عرفها هو المجتمع الفقير الذي لا يملك أسباب الرقي المادي والذي تنتشر فيه الأمية، ونحن عندما ندرس المجتمع المثالي الإسلامي نجده مجتمعاً فقيراً، لا يكاد يجد الفرد فيه ما يسد به رمقه، ولا ما يواري به جسده، فقد كانت بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليها الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد فيها نار لإنضاج طعام، ونجد الذين كانوا يحسنون القراءة والكتابة في المجتمع الأول الفاضل قليلين، وكذلك الذين يحسنون الصناعة أيضاً.

إذاً: فالمجتمع الصالح المتحضر هو هذا المجتمع الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.

إن نظرة الإسلام إلى المجتمع الراقي تصادم نظرة الجاهلية، فالإسلام يسم أكثر التجمعات الإنسانية تقدماً بالتأخر والرجعية والضلال إذا لم تحقق العبودية لله، وإذا لم تقم حياتها وفق تشريعاته ومنهجه، إن هذا الرقي المادي والعلم المادي لم يخلِّص فرعون ونمرود وعاداً وثمود وغيرهم من الأمم من مقت الله وغضبه، وليس معنى هذا أن الإسلام يحارب الرقي المادي، فالإسلام يأمرنا أن نسعى في الأرض لنسخر ما فيها من خيرات لصالحنا، قال سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:١٥]، لكن الإسلام يريد أن نبني هذا الرقي على أصول سليمة قويمة، ويريدنا أن نقوِّم علوم الحياة ونضبطها بضوابط إلهية تحميها من الانحراف والضلال، يريدنا أن نقيم الصروح والأبنية وفق تشريع الله تبارك وتعالى، عندما يكون الهدف الكبير من بناء ضخم كالأهرام، أو بناء ضخم مثل (تاج محل) أو تلك الأديرة والكنائس التي تراها في إيطاليا وفي العالم الغربي التي بنيت لهدف تافه، أن يكون هذا البناء الذي كلف أعماراً ومئات وألوفاً وعشرات الألوف من البشر ليكون قبراً لإنسان، أي حضارة مثل هذه؟! وأي رقي هذا؟! نحن لا نوافق الأمم التي تدعي أنها الأفضل والأحسن؛ لأنها تملك العمارات الشاهقة، والحدائق الغناء، والمسارح الرحبة، والقصور الفخمة، والشوارع المنسقة، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، لا نوافقها على أنها الأفضل من أجل ذلك وحده؛ ولا لأنها توصلت إلى علوم هائلة بنت بها الرقي المادي، فلو كان هذا صحيحاً لكان اللص صاحب القصر الكبير أفضل من الشريف صاحب الكوخ الصغير، والعالم الذي يخطط لتدمير البشرية أفضل من الإنسان العادي الذي يسعى في إصلاح العباد.

لقد أقامت كثير من الأمم حضارات راقية في المجال المادي، ولكنها أقامتها على أسس ظالمة، فأتى الله بنيانهم من القواعد ودمر ما كانوا يعرشون، قال عز وجل: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:٤٥] وقال عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:٤٨] وقال سبحانه: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:١١ - ١٥]، من أجل ذلك عرفنا الله تبارك وتعالى بمكانتنا وأننا خير الأمم، سواء الأمم التي لها دين،