[بيان العلاج القرآني لفتنة الحياة الدنيا]
والإنسان في دنياه دائماً يتطلع إلى أمور كثيرة، إذ الحياة بزخرفها وزينتها في بعض الأحيان تأسر قلب الإنسان؛ فتصرفه عن الحق، وذاك شيء مغروس في أعماق النفس الإنسانية، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:١٤ - ١٥].
فهذه الأمور حبيبة إلى نفس الإنسان مزينة له، ولا يمكن للإنسان أن يستعلي عليها إلا إذا فهم قيمة الحياة ووزنها في ميزان الله، وقارنها بما عند الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك يستعلي عليها، يقول تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:٦٠ - ٦١].
فالله تعالى يقول: إن كل شيء أوتيتموه إنما هو متاع يُتمتع به ثم يزول، وهو زينة، والزينة لا تدوم، أما الباقي الدائم مما عند الله فهو خير مما في الدنيا في النوعية والكيفية، وهو أبقى، فمتاع الدنيا زائل، والآخرة باقية لا تنتهي مسراتها ولا أفراحها، ولا يزول شبابها ولا تنتهي أيامها، أكلها دائم وظلها، تلك الحياة الآخرة، فأين عقولكم؟ قال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:٦١].
ونفس الإنسان تتطلع إلى الدنيا، وذلك مرض قاتل يصيب الناس في الصميم، ومنهم الذين يحملون دعوة الله فيتعثرون فيسقطون فيخسرون أنفسهم وتخسرهم دعوتهم.
وليس هذا دعوة إلى الرهبانية والتصوف، وإنما هي دعوة إلى أن نقدم الآخرة على الدنيا، كما قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧]، فهي دعوة إلى ما دعا الله إليه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى له: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:١٣١ - ١٣٢].
فليقاتل المسلمون اليوم هذه الدنيا، خاصة في الخليج والبلاد التي فتحت عليها الدنيا، فكثير من الناس قتلوا وهم أحياء، وماتوا وهم في عالم الأحياء، قتلتهم هذه الدنيا، وقتلتهم الشهوات، فضاعوا وضيعوا، وصدق فيهم قول الله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:١٦].
وما قام الصحابة والمسلمون بما قاموا به إلا عندما استعلوا على دنياهم وآثروا أخراهم، عند ذلك اختلت الموازين عند أعدائهم، فقد كانوا لا يعرفون كيف يقومون هؤلاء الذين يقاتلونهم، فإن وزنوهم بموازين الدنيا فلا تنطبق عليهم؛ إذ أن عشرة آلاف يغلبون خمسين ألفاً، وهذا الأمر في موازين الدنيا أمر بعيد، ولكن قلبت الموازين؛ لأن هؤلاء العشرة الآلاف حريصون على الموت حقيقة، ويتمنونه حقيقة، ويرون سعادتهم في أن يأتي الواحد سهم أو ضربة سيف تأخذ روحه ليصبح من الأحياء الذين هم عند ربهم يرزقون، فاختلت الموازين عند أعدائهم لأنهم يقيسون بمقاييس الدنيا.
ونحن اليوم نحمل أمانة الله، ونريد أن نحققها في واقع الحياة، وهذا يقتضي منا أن نفهم هذه الأمانة والرسالة، ثم نعرف العوائق التي تقف حجر عثرة في طريقنا، وقد ذكرت واحدة منها، ألا وهي هذه الدنيا بزينتها وشهواتها، والتي كثيراً ما غرق فيها الصالحون ورجال عملوا للإسلام كثيراً، تأخذهم الدنيا فتسأل عنهم فإذا بهم لم يبق بينهم وبين الإسلام ألا شعرة واحدة، وقد تنقطع هذه الشعرة.
فالواحد منهم غرق في دنياه بعد أن كان مثال الحيوية والنشاط والشباب والقوة والعزيمة، ثم ملأت عليه دنياه نفسه فإذا به يغرق.