ونحن اليوم قد عرفنا هذا القبس الإلهي والنور الرباني الذي وصل إلينا، فقد وصلت إلينا أمانة الله عبر الأجيال، وحفظها الله سبحانه وتعالى فلم يطرأ عليها تغيير ولم يطرأ عليها تبديل، وصلت إلينا كما أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وتحملناها وليس هناك خيار في أن يتحملها المسلم أو يرفضها، فليس لنا خيار في ذلك، بل إن رفضناها خسرنا كل شيء، وإن قبلناها ربحنا كل شيء، ولكن هذه الأمانة لا يكفي أن نحققها في قرارة أنفسنا، وأن نحققها بسلوكنا وعملنا، بل ينبغي أن نقررها في واقع الحياة.
فالله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يسود في عالم عباده دين يهيمن على الحياة في مختلف نواحيها إلا دينه الذي رضيه هو سبحانه وتعالى، أليست الأرض أرضه، والسماء سماؤه، والعباد عباده، وهو أعلم بما يصلحهم وما يفسدهم؟! فلماذا لا يحكم دينه؟ ولماذا لا يهيمن في واقع الحياة؟ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}[التوبة:٣٣].
إذاً: مهمة الذين آمنوا بدعوة الحق وتحملوا أمانة الله سبحانه وتعالى أن يقرروا الحق في واقع البشرية، وأن يصلوا به إلى الناس جميعاً؛ حتى يهيمن على الحياة وعلى الأحياء، وهذا لا يتأتى بأفراد يرفع كل منهم الراية وحده، ويسير في الطريق وحده، بل يحتاج هذا إلى تكاتف وتعاون، ولا يمكن لبناء الإسلام أن يقوم بأفراد متناثرين متباعدين كل منهم يسعى في سبيل ويضرب في طريق، بل إن هذا لا يتم به عمل دنيوي، فلو أردنا أن نبني عمارة وليس هناك مهندس ولا مخطط ولا مشرف، وجاء مائة شخص ليبنوا العمارة، وكان كل واحد منهم يتصرف كما يشاء، ويتصرف كما يريد، فكيف سيكون شكل هذه العمارة؟ وكيف سيكون بناؤها؟ إنني أجزم بأنها لن تصلح لشيء؛ لأن كل إنسان سيتصرف كما يشاء وكما يحلو له، فلن يستقيم أمرها.
وبناء الإسلام كذلك يحتاج أن يجتمع عليه المؤمنون، وأن يعيش الذين آمنوا بهذه الدعوة وحدة فيما بينهم، فبعد ذلك يصبح لهم في واقع الحياة وزن، ويصبح لهم في واقع الحياة ثقل، ويستطيعون أن يؤثروا بما لهم من مكانة وبما لهم من قوة وما يبذلونه من جهد في واقع البشر، وهذا مأخوذ بجلاء من سيرة الأنبياء والمرسلين لا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم فرد آمن به رجال، فكون جمعاً استطاع أن يؤثر به في الحياة، ولو بقي فرداً فكيف سيتحقق الإسلام واقعاً؟! ولذلك قال الله تعالى له:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}[الأنفال:٦٢ - ٦٣].
وموسى عليه السلام عندما كلفه الله بحمل الرسالة وحمل الأمانة قال:{رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي}[القصص:٣٣ - ٣٤]، فهو يطلب على الحق أنصاراً وأعواناً، يطلب من الله أن يؤيده بأخيه ليعينه ويناصره في واقع الأمر، ولذلك فالله عز وجل يقول لرسوله صلوات الله وسلامه عليه:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}[الكهف:٢٨]، فهذه فئتك، ومقامك في وسط هذه الطائفة الطيبة الخيرة، فاصبر نفسك مع هؤلاء.