وقبل نهاية هذه السورة يعرض علينا ربنا أنموذجاً بشرياً جديداً غير أنموذج فرعون، ولكنه كان من أتباع فرعون ومثل هذا النموذج نراه أيضاً في مجتمعاتنا وحياتنا، قال تعالى:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ}[القصص:٧٦]، ترك أمته ورسوله واختار الطاغية ومنهجه، بعد أن أنعم الله عليه، والله يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، فقد أعطى سليمان الملك وهو نبي، وأعطى فرعون الملك وهو طاغية، وحرم أناساً صالحين؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب.
قال تعالى:(وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:٧٦] أي: أن مفاتيح الكنوز تحتاج إلى مجموعة من الناس ليحملوها، {إذ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[القصص:٧٦] أي: يا قارون لا تفرح؛ فإن هذا الشيء عرض زائل لا يدوم، ولا يعني هذا أن نترك الدنيا للكفار، ولكن كما قال:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص:٧٧]، أي: قدم لآخرتك، واستعمل هذا المال في طاعة الله، واستمتع به، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:٧٧ - ٧٨]، أي: ملكت ذلك بجهدي، وهذا النموذج متكرر في زماننا فمثل فرعون، وقارون، وصاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف، نماذج كثيرة نراها ونشاهدها باستمرار في واقع الحياة، والإنسان الذي يتدبر القرآن بتمعن يرى هذا النموذج دائماً في واقعنا، كذلك ما جاء في قوله تعالى:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا}[الأحقاف:١٧]، وهذه نماذج لأصناف من البشر نجدهم دائماً وباستمرار، ويحدثنا الله عنهم لنتبين صفاتهم.
قال تعالى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[القصص:٧٩] وهذه فتنة، فقد نسي ضعفاء الإيمان أن هذا المتاع سيزول ويفنى فتمنوا مثله، ولكن المؤمنين الثابتين الصادقين الذين عرفوا حقيقة الدنيا قالوا:{وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}[القصص:٨٠]، ويقول الله في سورة الزخرف:{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا}[الزخرف:٣٣ - ٣٥]، أي: لو كان الناس كلهم كفاراً، لأعطينا كل كافر في الدنيا بيوتاً مزخرفة ومزينة بالذهب والفضة؛ لنبين لهم هوان الدنيا عندنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) ولذلك فلن ينال الكفار في الآخرة فيها شربة ماء، قال تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}[الأعراف:٥٠]، فإبراهيم عليه السلام يتبرأ من أبيه يوم القيامة، وذلك حين يلقى أباه وعلى وجهه القترة والغبرة، فيقول: يا إبراهيم! إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك، فيقول: أي رب! ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال: انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بذيخ متلطخ -أي: قد مسخ ضبعاً ثم يسحب بقوائمه ويلقى في النار.
وقد كانت هذه القصص وهذه المعاني زاداً للمسلمين في بداية الدعوة، وزاداً للمسلمين على مر التاريخ، تثبتهم، وتقيم الموازين في نفوسهم، وتهديهم للتي هي أقوم، فهي غذاؤهم ونورهم، وما يزال المؤمنون يثبتون بهذه المعاني ويتدارسونها ويتبينونها.