ثم لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، أراد الذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم أن يصدعوا هذه الوحدة؛ ليفرقوا جماعة المسلمين، فكانت الردة، ولم يقل المسلمون: نسكت عن هؤلاء ونهادنهم، لا، وإنما قاتلوهم حتى عادوا إلى الحق، والوحدة لا تكون على باطل، وإنما على الحق وعلى دين الله، فهؤلاء الذين امتنعوا من دفع الزكاة والذين تنبئوا هم أصحاب فرقة وشقاق، والجماعة القليلة في المدينة -الصحابة ومن استمر معهم الذين هم أصحاب الوحدة- حاربوهم حتى أعادوهم إلى الإسلام، والتأم شمل المسلمين، لا على قومية ولا على نقصان من الإسلام، وإنما على كلمة الإسلام وعلى دين الله.
واستمرت المسيرة إلى أن سار من وسط المسلمين أناس شقوا صفوف المسلمين، وكانت الفتنة في عهد عثمان التي فرقتهم وجعلتهم معسكرين يتقاتلون فيما بينهم، ولكن الله رحم المسلمين فالتأم شملهم مرة أخرى في عام (٤١) للهجرة، واجتمعوا مرة أخرى فسمي ذلك العام بعام الجماعة.
ثم بدأ ما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر عهد الصحابة، حيث بدأت الفرق الضالة تطل برءوسها، وقد أخبرنا أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فبدأت الفرق تطل برأسها هنا وهناك، من خوارج، ومعتزلة، وروافض وفرق كثيرة يعرفها من درس تاريخ الإسلام -ولكن الغلبة لأهل الحق- حيث شوشوا على المسلمين وأتعبوهم، ودارت حروب بين المسلمين، ولكن بقيت وحدة المسلمين، وأول انشقاق حدث عندما تحطمت الخلافة الأموية، وجاءت الخلافة العباسية، وأقام عبد الرحمن الداخل خلافة في الأندلس، ولكن كان الشرق ليس بكبير، واستمرت الدولة قوية، وفي منتصف القرن الرابع الهجري تفرقت الدولة العباسية وأصبحت دولاً وأمماً، وبقي الخليفة في بغداد يدعى له على المنابر وتؤخذ له البيعة وليس له من الأمر شيء، وبقية الأمة تتجزأ، ولكنها تحكم بالإسلام، وتنادي بالقرآن، وتعمل بشريعة الله.
ثم جاءت الخلافة العثمانية فقويت شوكة الإسلام، وبقيت إلى أن قضى عليها الصليبيون في أوائل هذا القرن العشرين، حيث أزالوا الخلافة من الوجود، وألغوا شريعة الإسلام، وقسموا بلاد المسلمين إلى دويلات هزيلة، وجعلوا لكل دولة حاكماً، ولكل دولة بيتاً، وقطعوا ما بين المسلمين، وأغروا بينهم العداوة والبغضاء، ونفخوا في كل طائفة منهم، أنتم كويتيون! أنتم عراقيون! أنتم فلسطينيون! أنتم مصريون! وقبل ذلك كنا أمة واحدة، فكلمة هذا مصري وهذا فلسطيني وهذا كويتي وهذا مغربي ما كانت تساوي شيئاً في الماضي، ووقع الخصام والفرقة والعداء بين المسلمين، وزال الحكم بالإسلام من ديار المسلمين، وذهبت الجيوش التي كانت تتوضأ في الصباح الباكر، وتقوم تصلي قبل أن تأخذ تدريباتها، والتي كانت تقرأ القرآن، وتجلس لدروس الوعظ، وتدخل القتال باسم الله، وتهجم وهي تعرف آداب الإسلام وتطلب جنة الله، زال كل ذلك إلا قليلاً من ديار المسلمين، فرقة! دعوات! مرة إلى القومية، فتظهر القومية العربية فيقولون: نحن عرب، والعربي أخو العربي كما في مصر والعراق، والبربر في شمال أفريقيا يقولون: نحن بربر، وقسموا بلاد المسلمين، وأطلت الأفاعي برءوسها هنا وهناك في بلاد المسلمين، وجاءنا البلاء أكثر وأكثر، حتى جاءنا أقوام اقتنعوا بمبادئ ماركس ولينين، وقالوا: نحن شيوعيون ولا يصلحكم إلا الشيوعية أيها المسلمون! وجاءنا أقوام آخرون بدعوات ما عرفناها وقالوا: نحن بعثيون، والنصارى يرسلون المبشرين إلى ديارنا؛ لينصروا أبناءنا، وتقام في الجزيرة العربية كنائس عليها صلبان، ويتنصر في أندونيسيا في العام الواحد ربع مليون مسلم، وجيوش من الطائرات والسيارات والمبشرين والرهبان في السودان، وفي الجزيرة، وفي بلاد الشام، وفي مصر، وفي أندونيسيا ألوف من أبناء الذين قتلوا في لبنان أخذهم المبشرون النصارى؛ ليجعلوهم نصارى، ونحن غافلون أو ساهون لاهون!