لكثرة المذاهب والعقائد والنحل والفرق فإن الفكر الإنساني لا يدري أين يسير؟ وماذا يأخذ؟ وماذا يدع؟ فالعقيدة لا تقوم كما نعلم على الحيرة والتردد، بل إن العقيدة تحتاج إلى اليقين الصادق الذي يقوم على الأدلة والبراهين التي لا تجد النفس لها مدفعاً، والتي تأثر في النفوس وتخضع لها العقول، والفكر الإنساني لا يستطيع أن ينقل لنا من خلال هذا الركام الهائل من التصورات والأفكار والعقائد التي يموج بها تاريخ الإنسان وواقعه أصولاً توقفه على اليقين المنافي للشك، وأنى يصل الإنسان إلى اليقين والقضايا التي يريد أن يصل فيها إلى اليقين لا يدخل كثير منها في المجال الذي يجوز للعقل الإنساني النظر فيه؟! إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه؛ لأنها نفسه، ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كلما زاد بحثه فيها، فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها، والروح ليس لها وزن ولا لون ولا حجم، ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية، فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها؟! قال الله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:٨٥]، فهذا شأن الإنسان في الروح التي تسري في كيانه، وهي سر حياته، فما بالكم بالبحث العقلي المجرد عن خالق الوجود؟! والعوالم التي لا نراها ولا نشاهدها، والتي سيصير إليها الإنسان بعد الموت، كالبرزخ واليوم الآخر، فالإنسان لا يمكن أن يصل في أمرها إلى قرار، ولا يمكن أن يصل إلى حقيقة أمرها، ولا يمكن أن يقف الإنسان فيها على أرض صلبة، وسيبقى طيلة عمره يعيش حائراً متردداً.
ولذا نجد الفلسفي يجتهد في معرفة الحقائق التي يمكن أن يقيم حياته عليها، والتي يمكن أن تفسر له وجوده، وترسم له مساره في الحياة، وغايته التي يسعى إليها، وتوضح له علاقته بالقوة التي أوجدته، وأوجدت الكون؛ فلا يصل إلى معرفة ذلك بعقله المجرد، فيعيش في شقاء، ويظن في بعض الأحيان أنه بلغ الغاية، وشارف على المقصد، وأوشك أن يصل، ولكنه يستدرك ما توصل إليه، ويعلم أنه وهم من الأوهام، ويفاجأ بالأجل وقد أدركه، فينظر فلا يجد أنه قد حقق في رحلته ما كان يصبو إليه.
إنني لا أريد أن أحدثكم عن المرارة والأسى التي كانت تخيم على الذين لم يعرفوا هدي السماء من الفلاسفة والمفكرين، ولكني أحدثكم عن الذين ينتسبون إلى الإسلام، ولكنهم انحرفوا في مسارهم شيئاً ما، فلما شارفت شمس العمر على المغيب ناحوا على أنفسهم، وأعلنوا للناس من حولهم أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي جروا وراءه طويلاً.
فهذا الإمام الرازي أحد هؤلاء الذين يعلن في نهاية المطاف أنه لم يصل إلى شيء، لابتعاده عن المنهج القرآني النبوي، ولجريانه وراء نتائج العقول الإنسانية، فكانت النتيجة أنه لم تقده هذه الأفكار والنظريات والمقالات إلى اليقين الذي يجده الناهل من وحي السماء، ولقد أدرك في نهاية المسار أن روحه لم ترتو من المنهل الذي ورده، وأن الغاية التي سعى إليها لم يحققها، وأن ما اعتمد عليه وجمعه إنما هي أقوال تتصارع وتتضارب.
إنني كلما قرأت أبياته التي أوردها في كتابه:(أقسام اللذات) أشم منها رائحة النواح الحزين الصاعد من قلب محزون مكلوم؛ إنه النواح على النفس: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من أجسادنا وغاية دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أن أقرب الطرق هو طريق القرآن، فأقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر:١٠]، وأقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:١١]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:١١٠]، ثم يختم حديثه قائلاً: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
ويصور لنا عبد الكريم الشهرستاني -وهو العلم الذي لا يشق له غبار في علمه بالملل والنحل- تخبط أصحاب الكلام في علوم العقائد في مقدمة كتابه:(نهاية الإقدام في علم الكلام) فقال: لعمري! لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وهذا الجويني الذي كان يدعى بـ إمام الحرمين، وهو من هو في علم الكلام والجدال والبحث والنظر، لما حضره الموت نظر في مساره في الحياة، ونظر في حصيلته التي حصلها، فإذا به يبكي بكاء الثكلى، لإضاعته الكثير من عمره في مسار لم يوصله إلى الشاطئ، فلقد كان يخوض في بحر خضم من الأفكار والعقائد والموازين، لا يقر قلب من خاضها على قرار، واسمع إليه وهو يوصي أصحابه وهو يعالج سكرات الموت فيقول: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في العلم الذي نهينا عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لي، وهأنذا أموت على عقيدة أمي.
وهذا عالم آخر من علماء الكلام يفتش عن حصيلة العمر، وهو على فراش الموت، فلا يجد عنده من الحق شيئاً، فيقول لمن حوله: اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب، ثم قال: والافتقار أمر عدم، فلم أعرف شيئاً!