[تفضيل بعض الأعمال على بعض عند الله تعالى]
وفي تفاضل الأعمال أنكر الله تبارك وتعالى على الذين فضلوا عملاً على عمل هو في ميزان الله أفضل، ومن ذلك قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:١٩]، فالله ينكر على طائفة جعلت سقاية الحاج وعمارة المسجد أفضل من الإيمان به واليوم الآخر، والمفسرون مختلفون في الذين قالوا ذلك، فقيل: إنهم فئة من المؤمنين، وقيل: بل هم المشركون، والمهم أن هناك مقولة تقول: إن عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج أفضل من الإيمان بالله، وأفضل من الجهاد في سبيل الله، فالله تبارك وتعالى أنكر ذلك؛ لأنه حكم يخالف حكم الله تبارك وتعالى، وهذا من جانب.
وجانب آخر: أن الإنسان كما يقال: أسير أفكاره ومعتقداته، فإذا اعتقد هذا فسيتجه إلى بناء المساجد وعمارتها، وسيترك الجهاد والعمل، مع أن عمارة المسجد الحرام فضيلة وعمل خير، وسقاية الحاج عمل طيب كذلك، ولكن هناك ما هو أفضل في ميزان الله وأكمل، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:١٩]، فهما عملان فاضلان لكنهما في ميزان الله لا يستويان.
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:٢٠]، وهذا صنف من الناس متميز في ميزان الله تبارك وتعالى، فالذي يترك معتقداته وموروثاته، ويخالف ما عليه الناس، ويؤمن بالله تبارك وتعالى، ويترك أهله ووطنه مهاجراً إلى الله ورسوله، ويجاهد في سبيل الله بماله ونفسه راغباً فيما عند الله تبارك وتعالى، هذا الصنف في ميزان الله أعظم درجة عند الله، وهذا هو الصنف الفائز في ميزان الله تبارك وتعالى.
وقال تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:١٧٧].
وهذه فئة من الناس تهتم بالأمور الشكلية في موازينها وفي أحكامها وتصرفاتها، كما ناقش اليهود والمشركون المسلمين عندما حولت القبلة، بقولهم: كنتم تتجهون إلى جهة الشمال إلى بيت المقدس ثم توجهتم إلى جهة الجنوب إلى مكة، فالله تبارك وتعالى قال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:١٧٧].
فهذه هي حقيقة البر، وهذه هي الأعمال الفاضلة في ميزان الله تبارك وتعالى، وهنا تناقشوا في اتجاه الإنسان أثناء صلاته إلى الشمال وإلى الجنوب، فعندما يأمر الله تبارك وتعالى بأن تتجه إلى بيت المقدس فسيكون البر الحقيقي أن تطيع الله تبارك وتعالى وتتجه إلى بيت المقدس، وعندما يأمر الله تبارك وتعالى أن نتجه إلى المسجد الحرام فسيكون البر أن تطيع أمر الله تبارك وتعالى، فالقيمة ارتبطت بالأمر الإلهي الرباني، وارتبطت القيمة بأمر الله تبارك وتعالى بهذا الفعل فأصبحت الاستجابة لهذا الفعل بر وخير؛ لأنك تعبد الله تبارك وتعالى، ومن هذا المنطلق ما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما خاطب الحجر الأسود: والله! إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
فالقيمة الحقيقية أن هذا أمر إلهي رباني، وتشريع إلهي، فنحن لا نعبد الأحجار عندما نطوف بالكعبة، ولا نعبد الحجر الأسود عندما نقبله، وإنما نعبد الله تبارك وتعالى بالاستجابة له إذ أمرنا أن نطوف بالكعبة ونتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاءنا به عندما نقبل الحجر الأسود.
فالقيمة الحقيقية إنما هي في طاعة الله وطاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فالبر هو: عمل الخير الحقيقي والذي يتمثل في هذا، فليس هو في جوانب شكلية كالاتجاه إلى المشرق أو المغرب، فالمشرق لله والمغرب لله، فإذا وجهنا إلى المشرق نتجه، وإذا وجهنا إلى المغرب نتجه.
إذاً: هناك أحكام ينبغي أن يتنبه الإنسان لها عندما يصدرها، وألا يسوي بين الأمور المتناقضة أو يفرق بين الأمور المجتمعة، وأن يصدر في موازينه وفي أحكامه عن قواعد الشريعة الإسلامية، وعن القيم التي تقرها الشريعة الإسلامية، وقد أنكر الله كما رأينا في كثير من آياته على الذين يسوون بين الأمور المختلفة، ويسوون بين الخالق والمخلوق، أو يفضلون أعمالاً على أعمال.
وكذلك في الحكم على البشر قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:٣٥ - ٣٨].
فيقرر الله تبارك وتعالى أن الإنسان المؤمن الصالح والمجرم الكافر الذي يعادي الله لا يستويان في ميزان الله تبارك وتعالى، لكي يتبين المسلم هذه القضية في الأحكام وفي سلم الأولويات حتى لا يضل، فالضلال قد يكون كبيراً إذا سوى الإنسان بين الخالق والمخلوق مثلاً، وأحياناً يكون أقل إذا ما فضّل عملاً على عمل فإن له نتائج سلبية في واقع الأمور والحياة.
فالبعد عن هذه المفاهيم ألقى الضلال على نفوس المسلمين في كثير من القضايا، وليس في قضية واحدة.
والإنسان الفاضل عند المسلمين: هو من يفقه دينه، لكن صاحب العقيدة المشوشة، والمفاهيم المغلوطة، يعتقد أن الكافر أعظم من المسلم، فالبريطاني والأمريكي والفرنسي في نفسه عظام، مع أن ميزان الله تبارك وتعالى يقول عنهم: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:١٧٩].
فالإنسان المسلم الخير الفاضل يساوي ملء الأرض من الكافرين، بل هؤلاء كما يخبر الله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:٩٨].