[بدعة الاعتزال]
وعندما عربت الفلسفات الرومية واليونانية ونقلت إلى اللغة العربية في حدود المائة الثانية زاد البلاء، وكثرت التيارات العقائدية والفكرية، وغزت عقول طوائف من المسلمين مثل: واصل بن عطاء وعمر بن عبيد.
فلقد نشأت الفرق المختلفة ومن أشهرها المعتزلة، وهي التي ابتدأ أمرها واصل بن عطاء، وقد زعم المعتزلة أنهم يريدون أن يدافعوا عن الدين ضد الملحدين والنصارى والفلاسفة، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، بل تبنوا نظريات وآراء أحدثت فرقاً بين المسلمين.
وتبنى بعض الخلفاء العباسيين وجهة نظرهم، وابتلي المسلمون في عصور هؤلاء الخلفاء الذين تبنوا الاعتزال، وعلماء المعتزلة الذين يسميهم المستشرقون اليوم (رجال الفكر، أو الأحرار) قاموا بالحجر على فكر المخالفين، وتكفير من لم يتبن أصولهم.
وقالوا: لا يكون هناك توحيد إلا إذا نفينا صفات الخالق خشية الوقوع في التجسيم.
وزعموا بناء على ذلك أن القرآن ليس كلام الله، وهذه الفتنة هي التي حدثت في عهد المأمون والخلفاء الذين بعده، ووقف في وجهها الإمام أحمد كما هو معروف.
وزعموا أيضاً أن العدل يقتضي أن العبد هو خالق فعله ليس الله هو خالق أفعال العباد، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر في الدنيا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما في الآخرة فهو كافر مخلد في النار، وقد وقف في وجههم العلماء الأجلاء، وقد ترك المعتزلة تراثاً ضخماً يشرح أصولهم ونظرياتهم، ومن أوسعها كتاب: المغني، للقاضي عبد الجبار المعتزلي، وكتاب شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار أيضاً، وهما مطبوعان.
ولقد أفل نجم المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المتوكل، ولكنهم صبغوا الفكر الإسلامي بكثير من نظرياتهم ومعتقداتهم، ومن الذين هدموا مذهب المعتزلة بعض الذين نشئوا على الفكر المعتزلي من أمثال أبي الحسن الأشعري المتوفى في سنة ثلاثمائة وأربعة وعشرين هجرية، وقد بقي معتزلياً أربعين عاماً، ثم رجع إلى مذهب السلف، وعلى الرغم من أن أبا الحسن الأشعري اقترب إلى مذهب السلف فيما ذهبوا إليه إلى حد كبير، إلا أنه لم يتخلص من أساليب المعتزلة وقواعدهم العقلية ومصطلحاتهم، وهذه الطريقة تؤدي بصاحبها إلى نتائج مخالفة لعقائد الأوائل مهما ادعى أصحابها أنهم يسيرون على نهج السلف، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقبل المعتزلة والأشاعرة وبعدهم نشأت فرق كثيرة كالمرجئة والماتريدية والكلابية وغيرهم، وكل فرقة من هذه الفرق لها بعض المعتقدات التي تخالف بها غيرها، ووراء كل معتقد من هذه المعتقدات فلسفات وتأويلات.
ونلاحظ أن كل الفرق المخالفة لمنهج السلف قد غلت في تقدير العقل وقدمت حكمه على حكم الشرع، واستعملت الموازين والمقاييس العقلية في محاكمة القضايا الغيبية، وابتعدت هذه الفرق عن الكتاب والسنة بنسب متفاوتة، ولجأ كثير من أهل هذه الفرق إلى تأويل النصوص التي لا توافق آرائهم ومعتقداتهم، فغاب عن كثير من هذه الفرق الكثير من حقائق الإسلام.
فلقد اختلف علماء الكلام في الصفات الإلهية، وفي الصلة بينها وبين ذات الله، وفي إمكان رؤية الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة، وفي مسألة العدل والجور، ومسألة القضاء والقدر، ولم يغادروا مسألة كبيرة أو صغيرة إلا اختلفوا فيها كثيراً أو قليلاً، وقد تعامل المتكلمون مع صفات الله كما لو كانت صفات الإنسان فأنكروها.
ونحن اليوم ورثنا عن المدارس الفكرية والعقائدية شيئاً كثيراً من الأفكار والمعتقدات، وسارت في أيامنا هذه معتقدات جديدة في الشرق والغرب غزت ديارنا وعقولنا ومناهجنا، فماذا نفعل وكيف نتصرف معها؟